لطفية الدليمي
يتحدّث المنظّرون الثقافيون ودارسو العلاقة بين الأفكار والتقنية والتبدّلات الإجتماعية عن دخول البشرية في مرحلة جديدة من العولمة الإفتراضية ، وستكون أهمّ سمات تلك المرحلة تعزيز الإستقلالية الفردية وبما يجعل كل فرد جزيرة معزولة مكتفية بذاتها، وإذا ماترافق هذا الأمر مع صعود تقنيات الذكاء الإصطناعي ووصولها لمستويات غير مسبوقة فسيكون الجنس البشري على أعتاب عصرجديد ينبغي التحسّب لمتغيّراته على الصعيد القيميّ والنفسي بخاصة .
ربما تكون مفردة ( العولمة ) أكثر المفردات التي دخلت قاموس المصطلحات الثقافية مع بدايات القرن الحادي والعشرين ، وقد تلبّست العولمة في كلّ تأثيراتها السياسية والإقتصادية والثقافية معنىً يفيد بسيادة وجهة نظر محددة - أو على الأقلّ إقترابها من السيادة - على كامل المشهد العالميّ وبما يعزّزُ خدمة السلام العالميّ ويضعف عوامل التناحر والإحتراب الآيديولوجيّ الذي يرقى إلى مستوى النزالات الصراعية المسلّحة ويجنبنا أهوال كوارث الحروب العالمية والحروب الاهلية المفجعة ، ومن هذذا المنطلق كان المفترض في العولمة ( أو هكذا تمّ الترويج لها ) بأنها عنصر خير عالميّ ستأتي بخيرات عميمة للأطراف جميعها ، ثمّ اتضحت الحقائق الصادمة لاحقاً لتكشف لنا أنّ العولمة المدّعاة ماكانت سوى شكلٍ مستحدث من أشكال فرض الهيمنة العالمية عبر وسائل ناعمة مدعمةٍ بضغط عناصر ثقافية ترمي لتحييد الثقافات المحلية من جانب ، وإشاعة نمطٍ من الثقافة العالمية التي تعزّز في معظمها النزعة الإستهلاكيّة وإنفتاح الأسواق أمام الشركات العالمية المتغوّلة في لعبة تجارية قد تبدو تنافسية في ظاهرها غير أن الغلبة محسومة فيها لأسياد التكنولوجيا المتحكّمين بمصائر عالمنا.
هناك حقيقة غريبة أوجدتها العولمة وأصبحت تشكّلُ نقيضاً جدلياً لها على نحوٍ شبيه بالديالكتيك الهيغلي القائم على تركيبة مشكلة من الفكرة ونقيضها ؛ هنا نحن أمام متناقضة ثنائية من نوع ( العولمة - العولمة الفائقة ) . العولمة الفائقة التي يدعونها السوبر عولمة ، هي ببساطة هذه العولمة الإفتراضية ، العولمة التي تُمارَسُ عبر وسائل الإتصال الحديثة وشبكة الإتصالات العالمية ، وتتقاطع هذه العولمة إلى حد كبير مع العولمة البدائية من حيث رغبة منظّري العولمة البدائية بسيادة أنماط معيشة موحّدة إلى حدّ كبير على أرض الواقع في شتى بقاع الأرض وبما يعظّم الأرباح المُتحصلة ، وكانت كلّ أشكال العولمة الأخرى وسائل مساعدة لتعضيد العولمة التجارية وتعزيز أرباحها ؛ أما بالنسبة للعولمة الإفتراضية فقد أصبحت تعني عولمة الأفكار والثقافات والإنتشار اللحظي للآراء والمشاهد البصرية والصوتية عبر الشبكة العالمية وماعادت تقتصر على الحقل التجاريّ ( أو الاقتصادي بعامة) ، والغريب في هذه العولمة أنها صارت توظّفُ لتعزير التقاطعات والصراعات الثقافية ودعمها وإشاعة نمط جديد من الهوية الذاتية والقومية وتكريس الإستقلالية الفردية والنزوعات الوطنية المتطرفة ؛ فبعد أن شهدنا ولادة الإتحاد الأوربي مع مطلع الألفية الثالثة باعتباره أكبر تكتّل سياسي مبشّر بعصر إختفاء الدولة - الأمة ها نحنُ نشهد إنفراط عقد هذا الإتحاد وشيوع النزاعات فيه، وقد ترافق هذا الأمر مع سيادة النزعات الفاشية والنازية المتطرفة ، ولم يختلف الحال كثيراً في منطقة الشرق الأوسط بعامة ؛ فقد شهدنا فظائع انتجتها الخطابات المتطرّفة للجماعات المتشدّدة التي تتفنّن في إستخدام وسائل العولمة الإفتراضية بحرفية كبيرة للدعوة الى خطابها الدينيّ العنيف ، ولاننسى حقيقة مهمة هنا ، وهي أنّ عدداً كبيراً من أعضاء تلك الجماعات ينتمون الى بلدان متقدمة تقنياً ساهمت في تخليق العولمة وإعلاء شأنها لسنوات عديدة .