TOP

جريدة المدى > عام > حول إنطباعات تولستوي عن باريس

حول إنطباعات تولستوي عن باريس

نشر في: 23 يونيو, 2018: 07:23 م

د. ضياء نافع

زار تولستوي باريس أول مرة عام 1857 وبقي فيها حوالي الشهرين تقريباً , وتوجد لوحة معدنية (بالفرنسية طبعاً ) معلقة في شارع ريفولي بباريس , ليست بعيدة عن متحف اللوفر الشهير, و تشير هذه اللوحة الى أن تولستوي عاش هناك في إحدى الشقق , وقد تم وضعها من قبل المسؤولين في العاصمة الفرنسية (وما زالت معلقة هناك لحد الآن) , كما تفعل كل الدول الحضارية , التي (تزرع !) الثقافة في شوارعها لكل الناس, وتعتزّ بزيارات أعلام الثقافة العالمية لها و تؤرخها و تتفاخر بها , وتولستوي بالطبع في مقدمتهم .
انطلق تولستوي من مدينة بطرسبورغ مع الشاعر نكراسوف والكاتب تورغينيف , واستغرقت سفرتهم من روسيا الى فرنسا (11) يوماً باكملها , خمسة أيام منها كانت في العربات التي تجرّها الخيول , حيث وصلوا الى وارشو عاصمة بولندا , ومن وارشو ركبوا القطار الى باريس عبر المانيا , وقد كتب تولستوي في يومياته قائلاً – ( إن السفر بالقطار – متعة ), وهو محق طبعاً بعد السفر في العربات . وفي اليوم الأول من وصولهم الى باريس ذهبوا الى دار الاوبرا , حيث كانت هناك حفلة تنكرية , رغم تعب الطريق . وفي باريس – كما يكتب تولستوي في يومياته – زار متحف اللوفر مرات عديدة ( كان سكنه قريبا من المتحف كما ذكرنا أعلاه ) , وادهشته هناك لوحات رمبرانت بالذات , وكتب عنها يقول , إن ( الوجوه في لوحاته حيوية وقوية , والتباين رائع بين الضوء والظل..) , واهتم تولستوي بالحي اللاتيني , حيث جامعة السوربون العتيدة, والتي استمع فيها الى عدة محاضرات في الفلسفة وتاريخ المسرح الشعري , أما بالنسبة لـ ( كوليج دي فرانس ) القريبة منها , والتي لم تكن تمنح شهادات اكاديمية متخصصة , وإنما تقوم بتنظيم محاضرات عامة ومجانية للجميع في كل أنواع المعرفة , فقد استمع تولستوي فيها – كما أشار في يومياته – الى محاضرات في الأدب الروماني والأدب الفرنسي والاقتصاد السياسي والقانون الدولي واللغة اللاتينية والفلسفة .
أما بالنسبة للفنون , فقد كتب تولستوي في إحدى رسائله من باريس يقول , إنه ( مسرور و سعيد بحياته في باريس ... وإنه يتمتع بالفنون ..) , وخصوصاً في مسارح المدينة , حيث زار الكثير من تلك المسارح , وكان يسجّل انطباعات سريعة عن هذه الزيارات , فقد كتب – مثلاً – عن مسرحية ( البخيل ) لمولير – ( ممتاز ) , وعن ( زواج فيغارو ) لبومارشيه - (جيد ) , وعن (مسألة المال ) لدوماس الأبن – ( سيئ جداً ) ...أما بالنسبة للموسيقى, فقد حضر حفلات موسيقية كثيرة بمفرده أو مع تورغينيف , وكتب عن احدى هذه الحفلات في الكونسرفتوار , حيث عزفوا إحدى سمفونيات بتهوفن , كتب قائلاً – ( يعزف الفرنسيون موسيقى بتهوفن مثل آلهة .. إني اتمتع وأنا أصغي الى هذه الموسيقى , التي يعزفها من أفضل الفنانين في العالم ..) , ونجد في رسالة أخرى كتبها حول تلك الحفلات الموسيقية يقول – ( لم استمع أبداً الى مثل هذا العزف الموسيقي المتكامل , كما في كونسرفتوار باريس ..) .
زار تولستوي في باريس طبعاً معالم تلك المدينة الشهيرة والمعروفة , ومن الطريف أن نذكر هنا , إنه لم يعجب بكنيسة نوتردام في باريس , واعتبر أن الكاتدرائية التي شاهدها مع تورغينيف في مدينة ديجون أجمل منها , وهي كاتدرائية تعود الى القرن الثالث عشر والرابع عشر , وزار بعض المعالم المرتبطة بنابليون , هذه الشخصية التي كتب عنها لاحقاً في روايته الخالدة ( الحرب والسلم ) , وحضر مرة حتى عملية إعدام بالمقصلة لأحد المجرمين الفرنسيين في الساحة قرب أحد السجون , وقد اشمئز من عملية الإعدام هذه , وانعكست تلك الانطباعات الرهيبة من جرّاء ذلك حتى على نظرته في المستقبل نحو الحضارة الأوروبية بشكل عام .
قضى تولستوي حوالي الشهرين في باريس آنذاك كما ذكرنا آنفاً, وهي زيارته الأولى لها , إذ إنه زارها مرة أخرى , وكتب بعد الزيارة الاولى هذه الى أحد أصدقائه يقول – ( لقد رأيت هناك كثيراً من الأشياء الجديدة والممتعة , بحيث كنت أرقد كل مساء وأقول لنفسي – كم هو مؤسف أن ينقضي اليوم بسرعة هكذا ...وبشكل عام , لم يكن لديّ الوقت الكافي للقيام بما كنت أريد القيام به ..)
ختاماً لمقالتنا هذه , نود أن نشير , الى أن تولستوي كتب بعد زيارته الاولى لباريس يقول – ( ...إن روعة الحياة الاساسية في باريس تكمن في الحريّة الاجتماعية , هذه الحريّة التي لم يكن عندي حتى ولا مفهومها في روسيا ..) . لقد كتب تولستوي هذه التأملات الفلسفية العميقة عندما كان عمره( 29) سنة ليس إلا , ومن الواضح تماماً , إن هذا النبيل الروسي كان يتقن اللغة الفرنسية ويعرف كيف يتخاطب بها مع الفرنسيين انفسهم و كيف يتفهم أعماق فنونهم وآدابهم وطبيعة مجتمعهم.
انطباعات تولستوي حول زيارته الاولى لباريس تستحق التأمل , وتستحق المقارنة أيضاً مع إنطباعات ( البعض!) من ( جماعتنا!!!).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram