د. ضياء نافع
زار تولستوي باريس أول مرة عام 1857 وبقي فيها حوالي الشهرين تقريباً , وتوجد لوحة معدنية (بالفرنسية طبعاً ) معلقة في شارع ريفولي بباريس , ليست بعيدة عن متحف اللوفر الشهير, و تشير هذه اللوحة الى أن تولستوي عاش هناك في إحدى الشقق , وقد تم وضعها من قبل المسؤولين في العاصمة الفرنسية (وما زالت معلقة هناك لحد الآن) , كما تفعل كل الدول الحضارية , التي (تزرع !) الثقافة في شوارعها لكل الناس, وتعتزّ بزيارات أعلام الثقافة العالمية لها و تؤرخها و تتفاخر بها , وتولستوي بالطبع في مقدمتهم .
انطلق تولستوي من مدينة بطرسبورغ مع الشاعر نكراسوف والكاتب تورغينيف , واستغرقت سفرتهم من روسيا الى فرنسا (11) يوماً باكملها , خمسة أيام منها كانت في العربات التي تجرّها الخيول , حيث وصلوا الى وارشو عاصمة بولندا , ومن وارشو ركبوا القطار الى باريس عبر المانيا , وقد كتب تولستوي في يومياته قائلاً – ( إن السفر بالقطار – متعة ), وهو محق طبعاً بعد السفر في العربات . وفي اليوم الأول من وصولهم الى باريس ذهبوا الى دار الاوبرا , حيث كانت هناك حفلة تنكرية , رغم تعب الطريق . وفي باريس – كما يكتب تولستوي في يومياته – زار متحف اللوفر مرات عديدة ( كان سكنه قريبا من المتحف كما ذكرنا أعلاه ) , وادهشته هناك لوحات رمبرانت بالذات , وكتب عنها يقول , إن ( الوجوه في لوحاته حيوية وقوية , والتباين رائع بين الضوء والظل..) , واهتم تولستوي بالحي اللاتيني , حيث جامعة السوربون العتيدة, والتي استمع فيها الى عدة محاضرات في الفلسفة وتاريخ المسرح الشعري , أما بالنسبة لـ ( كوليج دي فرانس ) القريبة منها , والتي لم تكن تمنح شهادات اكاديمية متخصصة , وإنما تقوم بتنظيم محاضرات عامة ومجانية للجميع في كل أنواع المعرفة , فقد استمع تولستوي فيها – كما أشار في يومياته – الى محاضرات في الأدب الروماني والأدب الفرنسي والاقتصاد السياسي والقانون الدولي واللغة اللاتينية والفلسفة .
أما بالنسبة للفنون , فقد كتب تولستوي في إحدى رسائله من باريس يقول , إنه ( مسرور و سعيد بحياته في باريس ... وإنه يتمتع بالفنون ..) , وخصوصاً في مسارح المدينة , حيث زار الكثير من تلك المسارح , وكان يسجّل انطباعات سريعة عن هذه الزيارات , فقد كتب – مثلاً – عن مسرحية ( البخيل ) لمولير – ( ممتاز ) , وعن ( زواج فيغارو ) لبومارشيه - (جيد ) , وعن (مسألة المال ) لدوماس الأبن – ( سيئ جداً ) ...أما بالنسبة للموسيقى, فقد حضر حفلات موسيقية كثيرة بمفرده أو مع تورغينيف , وكتب عن احدى هذه الحفلات في الكونسرفتوار , حيث عزفوا إحدى سمفونيات بتهوفن , كتب قائلاً – ( يعزف الفرنسيون موسيقى بتهوفن مثل آلهة .. إني اتمتع وأنا أصغي الى هذه الموسيقى , التي يعزفها من أفضل الفنانين في العالم ..) , ونجد في رسالة أخرى كتبها حول تلك الحفلات الموسيقية يقول – ( لم استمع أبداً الى مثل هذا العزف الموسيقي المتكامل , كما في كونسرفتوار باريس ..) .
زار تولستوي في باريس طبعاً معالم تلك المدينة الشهيرة والمعروفة , ومن الطريف أن نذكر هنا , إنه لم يعجب بكنيسة نوتردام في باريس , واعتبر أن الكاتدرائية التي شاهدها مع تورغينيف في مدينة ديجون أجمل منها , وهي كاتدرائية تعود الى القرن الثالث عشر والرابع عشر , وزار بعض المعالم المرتبطة بنابليون , هذه الشخصية التي كتب عنها لاحقاً في روايته الخالدة ( الحرب والسلم ) , وحضر مرة حتى عملية إعدام بالمقصلة لأحد المجرمين الفرنسيين في الساحة قرب أحد السجون , وقد اشمئز من عملية الإعدام هذه , وانعكست تلك الانطباعات الرهيبة من جرّاء ذلك حتى على نظرته في المستقبل نحو الحضارة الأوروبية بشكل عام .
قضى تولستوي حوالي الشهرين في باريس آنذاك كما ذكرنا آنفاً, وهي زيارته الأولى لها , إذ إنه زارها مرة أخرى , وكتب بعد الزيارة الاولى هذه الى أحد أصدقائه يقول – ( لقد رأيت هناك كثيراً من الأشياء الجديدة والممتعة , بحيث كنت أرقد كل مساء وأقول لنفسي – كم هو مؤسف أن ينقضي اليوم بسرعة هكذا ...وبشكل عام , لم يكن لديّ الوقت الكافي للقيام بما كنت أريد القيام به ..)
ختاماً لمقالتنا هذه , نود أن نشير , الى أن تولستوي كتب بعد زيارته الاولى لباريس يقول – ( ...إن روعة الحياة الاساسية في باريس تكمن في الحريّة الاجتماعية , هذه الحريّة التي لم يكن عندي حتى ولا مفهومها في روسيا ..) . لقد كتب تولستوي هذه التأملات الفلسفية العميقة عندما كان عمره( 29) سنة ليس إلا , ومن الواضح تماماً , إن هذا النبيل الروسي كان يتقن اللغة الفرنسية ويعرف كيف يتخاطب بها مع الفرنسيين انفسهم و كيف يتفهم أعماق فنونهم وآدابهم وطبيعة مجتمعهم.
انطباعات تولستوي حول زيارته الاولى لباريس تستحق التأمل , وتستحق المقارنة أيضاً مع إنطباعات ( البعض!) من ( جماعتنا!!!).