ستار كاووش
لم يكن قد تبقى على إفتتاح معرضي الشخصي (الباص الأحمر) الذي أقمته في قاعة الرشيد سوى يوم واحد. الوقت يضيق وحيرتي تزداد حول (بروشور) المعرض. أين سأطبعه؟ ومن أين لي بتكاليفه الباهظة؟ حتى نصحني بعض الأصدقاء قائلين (إذهب الى مطبعة مريوش، فهو ربما سيتفهم ظروفك المادية ويراعي الوقت)، لهذا حملت نفسي وذهبت الى المطبعة حاملاً مجموعة من صور لوحاتي مع نص نقدي كتبه الناقد عباس جاور حول أعمال المعرض. وهناك إلتقيتُ بمريوش في مكتبه بإحدى زوايا المطبعة وحكيت له التفاصيل، فأرسلني الى الطباع أبو نادية قائلاً (هو سيرتب لك كل ماتريد) دون أن يتحدث عن التفاصيل. وهكذا تواصلت مع أبي نادية الذي عاملني بلطف كبير وهو محاط بعدد من عمال المطبعة.
في اليوم التالي انتهيت من تعليق لوحات المعرض صحبة الفنان وائل المرعب الذي ساعدني كثيراً بإعتباره مديراً للقاعة، بإنتظار الإفتتاح الذي سيكون مساء ذات اليوم. وبعد أن إستقرت اللوحات على جدران القاعة، حملتُ نفسي وإنطلقت نحو مطبعة مريوش التي تقع في شارع صغير يربط بين شارعي أبو نؤاس والسعدون، وتبعد عشر دقائق مشياً عن الغاليري الذي تنتصب ببوابته المقوسة في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي. وعند دخولي، وجدت رزم البروشور جاهزة، فتجلَّدتُ أزاء فضولي، وأجَّلتُ معاينته، لأدخل لمكتب مريوش الذي كان مليئاً ببعض الأشخاص. وبعد أن شكرته على إستجابته السريعة، سألته عن تكاليف الطباعة، وأنا أمسك بمئتي دينار كثمن تقريبي يمكن أن يدفعه طالب في الأكاديمية مثلي، لكني مع ذلك كنت قد خبأتُ خمسين ديناراً أخرى في أحد جيوب بنطالي على سبيل الاحتياط، خوفاً من أن تكون المئتين قليلة بشكل مبالغ به. حين سمع مريوش كلمة تكاليف، نظر نحو النقود ضاحكاً وقال (أنت فنان شاب، وهذه النقود ستحتاجها لشيء آخر) ثم أضافَ قائلاً (رأيت صور لوحاتك، إنها رائعة، لهذا سيكون (البروشور) هديتي لك. اذهب وتمتع بالافتتاح الذي سأحاول بالتأكيد أن أحضره) وبعد أن شاهد حيرتي وترددي قال لي ساخراً (إسمع، محمد مهر الدين، أطبع له كتلوكاً مجاناً، ثم أدعوه للغداء على حسابي، ومع هذا لم أنجو من مسبته) وأردفَ (أرجو أن تبقى لطيفاً هكذا في المستقبل). شكرته كثيراً، وحملت الرزمة الثقيلة للبروشور الجميل بطياته الثلاث وأسرعتُ نحو قاعة الرشيد تحملني أجنحة السعادة والامتنان، حيث أُقيمَ إفتتاح المعرض بعد بضع ساعات.
بعد سنوات طويلة، أثناء عودتي من هولندا الـى العراق، إتصل بي الصديق بلاسم محمد ليدعوني علـى الغداء في بيته قائلاً (سيكون هناك عدد من الاصدقاء، بينهم شخص تُقَدِّرُهُ وتحب أن تراه بالتأكيد، إنه مريوش). في الكرادة، وأنا أهمُّ بالنزول من التكسي، لمحت عبد الرحيم ياسر وهو يغلق باب التكسي وراءه أيضاً، فقد حضر لنفس الدعوة. وخلال المسافة الصغيرة التي قطعناها الى بيت بلاسم الذي استقبلنا بكرم وحفاوة كبيرة، كنت أنظر لخطواتي وأستعيد إنطلاقتي السريعة وأنا خارج من المطبعة أحمل نسخ (البروشور) ومحاطاً بأشجار شارع أبو نؤاس.
في بيت بلاسم الجميل كان مريوش قد أخذ مكانه بين عدد من الأصدقاء، بذات الكاريزما ونفس روح الدعابة والأريحية التي استقبلني بها قبل ثلاثين سنة في المطبعة. قلت له ضاحكاً (لم أَنسَ موقفك معي، حين طبعت لي (بروشور) المعرض كهدية فأجابني ( وأنا كنت أشعر بأن خطواتك ستذهب بعيداً في عالم الرسم) تعانقنا وقبَّلته على صنيعه الذي لن أنساه أبداً، وتحدثنا عن الفن والطباعة والصداقات والعرفان الذي لا يغيره الزمن. ولأنه صاحب مطبعة عريق، فقد قَلَّبَ بين أصابعه البطاقة البريدية التي طبعتها منظمة العفو الدولية وتحمل واحدة من لوحاتي، فرح كثيراً بجمال الطباعة، وبما حققته لوحاتي من حضور طيب، ليطلب مني أن أرسل له صورة ذات اللوحة، ليطبعها في إحدى الروزنامات التي ستصدرها مطبعته، فأجبته مازحاً (وهل ستطبعها لي مجاناً؟) فأجاب الطباع العظيم بطريقته الساخرة، وسط ضحك الأصدقاء ( ربما أنا من يدفع لك الآن) .