TOP

جريدة المدى > عام > الـدادا الثقافة المضادة

الـدادا الثقافة المضادة

نشر في: 24 يونيو, 2018: 06:59 م

علي النجار

وأنا أكتب عن الدادا، فأنا أمام أمرين، إما أن أتقمص الفعل الدادائي، وإما أن أدون بعض من حوادثه. لكني وكعراقيي الداخل، أو المنفى، غالباً ما أعيش حوادث بلدي الدادائية المنفلتة عن السيطرة، فضلت تدوين بعض حوادث الدادا كما وردت في تواريخها الماضية والحاضرة.

هل كان(للدادا) تنظيرات فلسفية. أم مجرد أفعال نزوات خاصة لجماعة من أدباء وفنانين متمردين. بما أنهم لم ينظروا في أدبياتهم لغير المشوش وغير الواضح بكونهما(اللا فن) أو (الفن ضد الفن)، وتبنيهم لفوضى الرفض. لكن ما هو الفن وما هو اللا فن. رغم صعوبة الإجابة، لما تحمله من إشكاليات. بالتأكيد نحن لا نستطيع محاكمتها هكذا. فما طرحته من أفعال وتصورات كانت وليدة زمنها، ليست لها علاقة بما تعني الآن من وضوح الإجابة كما في فن الحداثة الأولى وحراك مكتشفاتها المتتابعة.
من الغرابة أن تستعيد فنون ما بعد الحداثة المختلفة أداءات الدادا وتوسع مجال اشتغالاتها. فهل كانت الدادا تتنبأ بمديات فاعليتها منذ إعلان(كابريه فولتير) في مدينة(ميونخ) السويسرية في العام( 1916). ربما هي كذلك، ربما لا. مع ذلك يبقى اليقين مرهوناً بحوادث التاريخ وظروفه المتشابهة المتعاقبة.
لننظر للظرف التاريخي الذي خلق الدادا، ولنقارنه بزمننا الـ (ما بعد حديث). رغم إشكالية مصطلح ما بعد حديث. من المعلوم إنها كانت من نتاج ونتائج الحرب العالمية الأولى، كحركة احتجاجية قبل أن تكون ثقافية منسجمة والجو الثقافي العام لتلك الفترة. انصب احتجاجها ضد السياسة والثقافة الأوروبية وقيمها المثالية التي سلمت أوروبا لطاحونة الحرب. معلنةً فشل هذه القيم في المحافظة على نوازعها الإنسانية المركزية التي ابتكرتها. مع علمنا إن العلة ليس في هذه القيم فقط، بقدر من محاولة تصريف أزماتها.
تمرد الدادا، وكردة فعل، هو الذي خلق عبثيتها التدميرية، من خلال عدم الإعتراف بالمنجزات الفنية ونظرياتها المعيارية الجمالية. عوضاً عن ذلك تبنت وجهة نظر تدعو لتحطيم القيم البرجوازية، منطلقة من لا جدواها، ومقرة بسطوة اللامركزية وعبثها. لكن إنْ كان عدم الاعتراف غالباً ما يصنع أعمالاً مختلفة ذائقتها. الدادا لا تصنع شيئاً، بل تقدس هذا اللا شيء في اللا معنى. رغم ذلك، وكأي حركة إحتجاجية بقي أثرها فاعلاً بعد انتهاء زمنها في العديد من الحركات الفنية التي انفصلت عنها. بدءاً بالسريالية التي استعانت بتداعيات اللاشعور وأسست عليه منجزها. عبوراً لحركة (الفلوكس) الألمانية والبوب الأوروبي الأميركي.
العمل الجاهز وهو أحدى لقى الدادا(كما دوشامب) ومقولته عن(الكائن الذي تم العثور عليه وتحوله الى شبح) يلاحق أفعال الدادا. بما أن ليس هناك من مكان للحقائق أو لسرديات التاريخ الكبرى من وجهة نظرهم. ولا جدية البحث والمهارة وسطوة التقنية، كما تدخلات
(دوشامب) في نسخة من صور الجيوكندا في عمله، (أو عمله الجاهز المبولة الذي فتح المجال للتجريب واسعاً وليتعدىL.H.O.O.Q) مفهومه الدادائي في أعمال حداثية لاحقة. من خلال خلقه لعبث اللا معنى كعمل فني، أسطورته المتجددة، شبح الجاهز وجاهزية اعتماده أو بعثرته.
ليس العمل الجاهز لوحده، بل عمل الجسد ، الفنان الدادائي أيضاً من أعلن تمرده. فإن كان الألماني (هوغو بال) غرد بكلمات اللا معنى في قصيدته(كروانه) في حفل التأسيس عام(1916)، الذي لم يكن في باله بأنه كان يؤسس لفن الأداء المفاهيمي اللاحق. ما يهمنا من هذه الأمثلة هو فاعلية اللا معنى التي عبرت عنها الأجيال الفنية بما يناسب الظروف السياسية المقاربة، كما في زمن الحرب الباردة التي استعادت أساطيرها في زمنها الملتبس. أليست هي أوروبا من انقسمت مرة أخرى شرقاً وغرباً في حربها الباردة، بعد الحرب العالمية الثانية. مؤكدة مجدداً فعلها اللا يقيني، وان كانت لا يقينيتها مفتعلة بوازع صراع مصالحها المؤطرة سياسياً.
(لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا، كل شيء يجب أن يهدم، سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء). بعد هذا البيان التنبؤي الأول، هل بدأت الدادا من جديد بتنفيذ شروطها المستحيلة. أم أن الشروط التاريخية هي التي أعادتها بأشكال وأساليب ونوايا مختلفة. (فوكوياما)بمعاصرته الـ (ما بعد حداثية) أعلن(نهاية التاريخ) وعينه على القوى التي تتحكم في صنع نبوءته، قوى المصالح الاقتصادية التي تحكم سيطرتها على وسائل الواقع التي حولته الإمبريالية الشرسة لوقائع افتراضية(كما حرب الخليج). هذا الواقع الافتراضي الذي تجاوز التحقيق المصطلحي لما قبله(الحداثة)، بخرافته المذهلة المستحضرة من وهم الأساطير الماضوية والجديدة، على أعتاب قرننا الجديد.
لم تكن نوايا العولمة الثقافية عن الهامش إلا كنوع من الحلول السحرية لأزمة ثقافة القرن العشرين المتأخرة. فهل كانت العولمة الثقافية السياسية والاقتصادية بمفاصلها الأخرى كذلك، وهي تقود المجتمع العالمي لصوتها المهيمن الواحد. فأية لعبة أن يكون المصطلح الواحد متشظياً وفي نفس الوقت يحمل وجهه الأوحد. هو التفكيك مرة أخرى لسرديات التاريخ والثقافة الكبرى، كما الدادا، رغم اختلاف النوايا والأهداف. لصالح النزعة الانتقائية البرجماتية. وكفلسفة تفكيكية سادت عالمنا الثقافي منذ منتصف القرن الماضي، ما تزال تمارس دورها المتشظي اللانهائي، رغم علامات هرمها، في بعثرة وتشظي المكتشفات الفنية وتسطيح نتاجها ونتائجها(إشارة الإيطالي مانزوني للنقد الفني الجسدي، ومن ضمنه جسد الفنان، عملياته ومنتجاته، كطريق لفهم شخصية الفنان ونتاجه)، رغم كونه غادرنا في العام(1961)، أي منذ عدة عقود. الا أن نتاج جسده(برازه) المعلب ما يزال قابلا للمداولة والمضاربة، بما أن العصر ما يزال عصره.
مانزوني أشار إلى الانتقاد النقدي والجسدي لجسد الفنان، عملياته ومنتجاته، كطريق لفهم شخصية الفنان ونتاجه الفني. فهم الشخصية الاجرائي هذا لم يمنع من تداوله في سوق المضاربات الفنية التي كرست هذه الأفعال ضمن سياستها الثقافية. ربما أجد من غرابة صدفة تداول أرقام تواريخ فعالية(هوغو بال) عام(1916) وفعالية مانزوني(1961). ولعبة سحر الأرقام. مع ذلك فان مداخلة مانزوني النقدية لعمله ما تزال فاعلة، كما ألعاب غال اللا لغوية. ما حدث لجديد الدادا لا يتعدى دور تدخلات الفنان النصية أو الإيضاحية في الترويج لأعماله، مع مسحة من غموض النوايا. تدخلا ما يزال مرغوباً ومتداولاً في زمننا. على العكس من سطوة العمل ذاته سابقاً. إن كان فعل البراز المعلب وهماً. فنحن الآن نعوم وسط تصاعد سطوة ثقافة الأوهام الرقمية ووسائلها السائلة أيضاً. ثقافة وسلوك تُردد صداه حياتنا اليومية، دادا جديدة معاشة بحدس تضمره وسائلها المنتشرة الفاعلة.
ربما أوحت لوحة مانيه الساخرة(غداء على العشب) التي رسمها بين عامي(1862) و(1863) بسخريتها المبكرة من القيم الاجتماعية المتداولة، للدائية المبكرة لتداول هذه السخرية الى حدها الأقصى بمعارضتها اساليب وطرق تنفيذ الأعمال الفنية. والاستعاضة عنها بأفعالها الارتجالية، لتتجاوز تلك السخرية جمهورها أيضا، من خلال اختيار أماكن العروض الفنية والصوتية والأدائية الغير مألوفة وغير اللائقة. فهل حافظت دادا(1960) الجديدة على شروط سابقتها وهي تقيم صروحها في أرض غريبة(الولايات المتحدة)، البلد الذي نجا من ويلات الحرب الكونية الثانية بأقل خسارة. البلد الذي حول كل الصرعات الفنية لفعل التداول الاقتصادي، وكانت الدادا إحدى ضحاياه، بعد ان تمت صياغتها من قبل الفنانين بما يناسب قياس جغرافيتها الاقتصادية الجديدة، بالرغم من عدم الإعلان عنها بصخب كما في زيورخ، ليقتصر أدائها على السخرية بدل السخط الأوربي السياسي النزعة والهدف. فلا خيبة هنا ولا إحباط لجماعة نيويورك بأصولهم الاوربية والأمريكية(مارسيل دوشامب، بيكابيا، مان راي، بياترس وود...)!
ايقونة الدادا (مبولة مارسيل دوشامب) التقطتها الصدفة. البريطانية( تريسي إمين) بعد أن تركت سريرها بآثاره المثيرة لقاعة العرض. هي لم تصنع عملها كما صدفة دوشامب. لكن الفرق ما بين هذا وذك تحدده وجهتي نظر عملة واحدة بوجهين. بمعنى ان أفعال الداد الجديدة رغم اختلافها بعض الشيء عن سرير إمين. الا انها تأسست على كونها أعمال معدة للعرض والتسويق أو الاستعراض الأدائي، كما أفعال الألماني (جوزيف بويز) في تشتتها ولا وضوحها، رغم نواياها الاجتماعية.
لقد صنعت الدادا مفاهيمها من الألفاظ والأفعال العبثية، قبل أن تتبني العمل أو الفعل المفاهيمي الحديث بعدة عقود من الأعوام. ولو نظرنا للأفعال المفاهيمية الحالية(ما بعد الحداثية) لأكتشفنا علاقة الكثير منها بالعقل الدادائي. الفنان الصيني المعارض(وي وي) يرفع اصبعه الوسطاني، كفعل بذيء، بوجه النظام الصيني متمثلا في أحد منشآته. في نية رفع الفعل التهكمي الفاحش لمستوى عمل الأداء الفني. اليست الداد كذلك، رغم عدم الإشارة الى اعمالها أو افعالها كأعمال فنية. اليست الدادا نوعا من نشاطا سياسيا، كما فعلة وي وي أيضا، بما ان أفعال السياسة صنعتها.
إن مثلت الدادا الأولى جنون العصر لبداية القرن العشرين. تبعتها السريالية كجنون معقلن. دادا ما بعد الحداثة(الجديدة) غالبا ما كانت أفعال مضاربات السوق التشكيلي بخلقها أوهاما جديدة متلبسة صيغة احتجاجية عدمية عبثية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram