ناجح المعموري
2-2
حرص المانويون على استثمار ثقافات الشعوب التي عاشوا فيها ومفهوم ذلك واضح ، هو التبادل الثقافي والمعرفي مع السائد ، من أجل أن يوفر لهم أوسع الفرص للتواجد والتعايش وبث أفكارهم. هذه ظاهرة ليست خاصة بـ " المانوية " بل لدى كل الجماعات ، التي تشكلت بعد الإسلام . وشيوع مثل هذه الظاهرة أمر حسن جداً ، يضع الوافد وسط مختبر ثقافي يمور بصراع هادئ ويساعده على تفعيل التيار ـ هذا مصطلح إدوارد سعيد ولا ضرورة للخوض فيه ، وكلما ازدادت دوامات التيار ، تضاعفت إمكانات الوافد بالمواجهة والتعايش الهادئ . تعرفوا في الفارسية على تراثهم وشخصياتهم الأسطورية ، وكذلك الحال مع الآرامية في العراق ، والقبطية في مصر ، والصفدية في تركستان وكانت ـ كما قال الغانمي ـ الثقافة الغنوصية الشيتيه في بابل قد أعادت صياغة الملاحم العراقية القديمة ولاسيما ملحمة جلجامش التعبير عن حقبتهم الدينية الجديدة (في قرية مجاورة لمدينة بابل ، ولد ماني وهناك أعلن نبوّته) .
قدم الأستاذ سعيد الغانمي دليلاً مهماً ، حول التبادل الثقافي ، واستثمار ثقافة الأخر لترميق ما لديه . وهذه ظاهرة كبيرة مألوفة لدى كل الشعوب . انه نوع من الحوار ، الاتصال والتشارك ، أو التناص لاحقاً ولذا يطلق " سفر الجبابرة " لدى طائفة البحر الميت على كبير ملائكة الشر اسم " جلجامش " بينما يضفي جميع خصائص جلجامش البطولية على (اخنوخ) وفي الوقت نفسه أسند "سفر الجبابرة" المانوي ، كما تتضح من الشذرات الصفدية التي نشرت مؤخراً ، بعض الخصائص البطولية الى شخصيتين ، أخريين هما (اوتانابيش) و (اخوبابيش) ، الذي يجعله محاوراً للشيطان "عزرائيل" . والسؤال الآن من هما (اوتانابيش) و (اخوبابيش) . وماذا أطلق عليهما في الصيغة العربية من الأسطورة المانوية ؟
المهم في أثارة الأستاذ الغانمي وما سنأتي عليه أيضاً هو وجود الاستعداد التام لدى الجماعات ذات المشروع الثقافي والديني / والمعرفي للانصات بشكل جيد للآخر الموجود في الحاضر، أو في الماضي السحيق . وينطوي هذا على درس في الاستعداد وإعادة فحص ما كان سائداً وتوظيف ما هو ممكن ... كما كشف لي الأستاذ الغانمي ، احتمال الاستثمار حتى اذا لم يكن الحضور الجديد ايجابياً ، فالجماعة المعاصرة هي صاحبة العقل المفكر ، والقادرة على التوظيف ، وإحلال القلب والاستبدال ، وكأنها تؤكد عبر ذلك على أهمية الحوار وحيويته وتعطي درساً بذلك ، وإنه درس مباشر وبوضوح تام .
هذا هو المشروع الفكري المفتوح دائماً ، والمقتنع بالحوار ، والمتحرك نحو الأمام أو الخلف دائماً فما هو ممكن توظيفه موجود في أرحام الأزمنة والمثير هو نوعية الحفريات التي لم يتقدم إليها أحد من قبل .
علاقة المانوية مع تاريخ وذاكرة الجماعات والشعوب ، علاقة تعزيز الجديد ومنحه مزيداً ، من الطاقات الثقافية المتنوعة . واعتقد بأن مثل هذا الأنموذج ينطوي على درس للآخر لاستثمار الميتا سرد بمفهوم مغاير عن المفهوم الأصل ويعني العودة لما هو معاش قبلاً وحيازته كله أو بعضاً أو إجراء تغيرات فيه وانحرافات قادرة على تلبية الحاضر ، وإشباعه باحلالات جديدة . واعتقد بأن ما ذهبت إليه المانوية ، هو نوع من التطعيم والترميق ، وتكريس الإنشاء الثقافي والمعرفي ، وتيسير الحوار مع الجماعة أو الشعب الذي استعاروا منه . وما ذهب إليه الأستاذ الغانمي ـ وما سنطلع عليه لاحقاً ـ له رسالة خفية ، تقضي نحو حقيقة ثقافية جبارة وهي أن الحوار مع ثقافة ما يمثل وعداً بحلم ، يتحرك نحو النضج والاكتمال ، استعانة بطاقة كامنة ، تتحرك في لحظة ما ، تدرك أهميتها الجماعة وجدواها . إنها طاقة التخيل . ولأني معني بمقالي . هذا الإشارة لحفريات الغانمي في ملحمة جلجامش وتحاورها الثقافي ، أجد ضرورة ملحة لتسجيل آخر نص طويل عن ذلك :
ما دمنا قد طابقنا بين جلجامش في " ملحمة جلجامش " وجلجامش في " سفر الجبابرة " القمراني ، ورأينا مثله أن " شقلون ـ الذي يذكره الجاحظ هو " شكلاً في النصوص الغنوصية في مكتبة " نجع حمادي فليس من العسير أن نستخلص أن "اوتانابيش" هو "اوتانيشتم" في ملحمة جلجامش وان خوبابيش "هو خمابا فيها . ويبدو أن شخصيات" ملحمة جلجامش قد اشتهرت في العصر الروماني بوظائف أدبية مغايرة عبر محاولات أعادة التكييف الثاقبة المتكررة ، ولاسيما لدى الشيتية أو الغنوصية في العراق . ومن المعروف أن خمبايا هو الوحش السومري الذي كان يحمل في الأصل اسم " خواوا " ثم تحول في النصوص البابلية الى " خمبايا " بصيغة " كمبابو " في قصة يونانية تنسب للوتيانوس السميساطي عنوانها " الآلهة السورية " وفيها يقوم الشاب كمبابوس بالتضحية بنفسه لحماية ملكة جميلة كان مسؤولاً عن حمايتها . وهكذا تبين التسميات المختلفة .......... على أن الوظيفة التي يقوم بها بقيت هي نفسها ، وهي حراسة شخصية أو مكان مقدس ، مع مراعاة التغيرات الدينية الحادثة بتغير الأديان / وإذا تابعنا الوظائف وما يناظرها من تسميات في النسخة العربية ، فقد نتوصل الى بعض المعلومات المهمة . مستقلون هي سكلاً و " حكيمة الدهر " هي " صوفيا " وابنة الحرص هي " باربيلو" . وجلجامش هو " الصنديد " و "اوتانيشتم" هو "روح الحياة" و " خمبايا" هو " الهُمامة " عند ابن النديم / الغانمي ن. م / ص15..
أخيراً لابد لي من أشارة سريعة ، خاصة بـ " كمبابوس " الذي أشار له الأستاذ الغانمي . . وقد استفدت منه في دراسة الأصول الأسطورية في قصة يوسف التوراتي مع حكاية " انبو وبايتي " وتلك الأسطورة تنطوي على تفاصيل عديدة ومهمة ( للاطلاع : ناجح المعموري / الأصول المصرية في قصة يوسف التوراتي / دار تموز / دمشق / 2012/ ولمن يرغب بالجهود المعرفية الرصينة للمفكر سعيد الغانمي أدعوه برجاء للاطلاع على كتابه القيم " ينابيع اللغة الأولى " الصادر عن دار مشروع كلمة /أبو ظبي//..