محمود عبد الوهاب يبدو أن التفريع في الدراسة الإعدادية بين القسمين العلمي والأدبي في النظام التعليمي الذي ينهج هذا النهج ، يمثّـل إحدى الخطوات الأولى والمبكّرة التي مهّدت الى الفصل بين الثقافـتين العلمية والأدبية ،
إذ يجعل هذا التفريع من التحصيل الدراسي في تلك المرحلة تحصيلاً متبايناً للجيل الواحد ، بينما تعمل الأنظمة التعليمية المتقدمة ، على تزويد طلاب هذه المرحلة جميعاً بما يسمّى بالمعارف الأولية العلمية والإنسانية ، ما يحقق مفهوم التعليم العام ، والشهادة العامة GENERAL CERTIFICATE ، بعيداً عن التخصص الأوليّ ، الشكليّ وربما القسريّ أيضاً .قد يكون هذا التفريع بين القسمين العلمي والأدبي باعثاً على ما كنّا نعانيه ، نحن طلاب الفرع الأدبي ، في نهاية أربعينيات القرن الماضي ، من صعوبات المواد العلمية ، لا لأسباب تعود إلى القدرات المحدودة التي كنا نملكها ، بل ربما للشعور النفسي الدفـين الذي كان يتملّكـنا ، آنذاك ، بوصفنا طلاب أدب ، تكون المواد العلمية فيه هامشاً معرفياً أو عرَضاً ينبغي ألاّ يشغلنا كلياً ، وربما كان هذا الشعور نفسه يتملّك مدرس الرياضيات أيضاًً الذي كان يرى أن طلاب الفرع الأدبي ليسوا بالدرجة التي تؤهلهم لتقبّل مادته ، ولعلّ لهذا السبب أيضاً كان مدرسنا سرعان ما يشتد غضباً حينما يتلكأ أحدنا في فهم مسألة رياضية ، أو في إجراء حلّها ، داخل الدرس وأمام السبورة ، ولا يصحّ طبعاً أن تنسحب مثل هذه الحالة على المدرسين كافة ، في تلك السنوات أو ما بعدها .ما حملني على استذكار ذلك كتاب "جيمس تريفيل " أستاذ الفيزياء في جامعة جورج ماسون" (ت: شوقي جلال) " المعنون " لماذا العلم ؟" يرى فيه تريفيل أن هوّة راهنة قائمة بين العلم والأدب تضرّ بالمجالين ، وتسدّ الطريق على نموّهما ، ولا يمكن ردم هـــذه الهوة الاّ بالفهم الموضوعي لوحدة الثقافتين .استهواني كتاب تريفيل وحملني ، على جناحيه ، إلى ما قبل خمسة عقود، حينما كنت طالباً متقدّماً في مواد الفرع الأدبي ، متلكئاً في ما أعانيه من مادة الرياضيات وحدها . ظلّت الرياضيات معضلتي : مسألتان أجهل حلّهما إلى اليوم ، على الرغم مما عُرض عليّ حلّها مرات متعاقبة على أيدي زملاء متخصصين . المسألة الأولى : حوض الماء والمضختان الماصّة لماء الحوض، والمضخة دافعة الماء إلى الحوض ، وبين تدفّق الماء وسحبه من الحوض ، يبدأ تساؤلي ، كيف يمتلئ الحوض ومتى ؟ . والمسألة الثانية : القرد الذي يتسلق السارية ، يصعد مسافة معينة ثم ينزلق إلى أسفل مسافة أخرى ، وهكذا يعاود القرد محاولاته ، فمتى يبلغ القرد نهاية السارية ؟. يبدو أن حلّ المسألتين يعتمد بالأساس على قاعدة رياضية واحدة أو متماثلة كنت أجهلها ومازلت.العلم في كتاب تريفيل ، ليس معرفة مستقلة أو معزولة ، وليس هو حيازة ذهنية لمعلومات أو حيازة مادية لتكنولوجيا ، إنه روح العصر ، بمعنى أنه ظاهرة اجتماعية ثقافية ، ونسق معرفي يرتبط ببنية المجتمع والوجود الإنساني والطبيعة ، ومن هنا فلا صراع ، كما يُتوهم، بين العلم والأدب ، صحيح أن لكل منهما طبيعته ، فالعلم ينبني على الاستدلال المنطقي ، بينمـا الأدب مبعثه مكنونات ذاتية ، وقد لخّص عالم البيولوجيا الفرنسي " كلود برنار " ذلــك بقوله :"الفــن هو أنا، أما العلم فهو نحن" .يوجّه تريفيل كتابه ، إلى الطلاب الذين هم بحاجة إلى اكتساب القدر الكافي من العلم ما يؤهلهم لأداء دورهم مواطنين ، ويوجه كتابه إلى المعلمين والإداريين ومصممي المقررات الدراسية أيضاً ، ويدعوهم إلى المشاركة في مناقشة مشروعه ، مؤكّداَ أن نظامهم التعليمي ينطوي على جوانب يتمنى تريفيل تغييرها.وفي هذا المسار ، في ما هو واقع فعلاً من فجوة بين العلم والأدب ، يذكر تريفيل أنّ عالم الكيمياء والروائي " تشارلس بيرس سنو " سأل مجموعة ممن عرفت بثقافتها الرفيعة : ما القانون الثاني للديناميكا الحرارية ؟ كانت أجوبة المجموعة محبطة وسلبية ، على الرغم مــن أن هذا السؤال – كما يذكر تريفيل – يكاد يكون معادلاً علمياً لمن يسأل : هل قرأتَ عملاً من أعمال شكسبير؟.وقد أثار هذا السؤال جدلاً ضارياً وسط رموز الأدباء الإنكليز ، ما افترض أن الثقافتين العلمية والإنسانية في انكلترا نشأتا وتطورتا في مسار ينفي إحداهما الأخرى. كما أجد أن من الطريف الإشارة إلى رأي تريفيل في تأمل أدب ما بعد الحداثة ، فهو يرى أن معظم دراسات ما بعد الحداثة تقوم على معلومات انتقائية وأجندة سياسية، وأنه استمع إلى كثير من الأقوال على لسان أصحاب ما بعد الحداثة في معظم الندوات والمؤتمرات، وكان ينتابه شعور كما لو كان يرى صبياً في بواكير المراهقة يزهو بنفسه كأنه أول من اكتشف الجنس في تاريخ البشرية، ويعترض تريفيل على إحدى مقولات ما بعد الحداثة التي تؤكد " أنْ لا شيء خارج
اوراق :ثقافتان
نشر في: 20 إبريل, 2010: 04:21 م