لطفية الدليمي
انتقل اللعب باللغة من ميدان السياسة اللعوب التي تحاول قمع كل فكرة تضاد هيمنتها إلى ميدان الفكر والابداع في زمننا ، وظهرت الأفكار الملتبسة التي توحي بلغتها الغامضة الملتفة بنقيض ماتبطنه من معانٍ ، وتمادى بعضهم في تعزيز الغموض خشية الحكم عليهم بالاستسهال من جانب ولأجل إبهار قارئهم من جانب آخر ، وقلد هؤلاء بلغتهم الالتفافية المبهمة جمعٌ من الكتاب في سردهم المعقد وعباراتهم اللولبية ومفرداتهم المبهمة عن سابق قصد وإصرار ، وترّسم خطاهم كتّابٌ مبتدئون وجدوا في اللوذ بالغموض دريئة ضد وهن النص وركاكته ، وتمادى من احترف النقد - وهوليس بناقد - في تمجيد تلك النصوص القائمة على الإيهام بعمق المعنى ، وعمدوا إلى اتباع سبل التأويل والتفسير لشرح تلك النصوص المصطنعة قاصدين تهوين الأمر على المتلقين من القراء ؛ فالتبست أمور كثيرة ، وتوهم البعض أن السبيل الصحيح لبلوغ مراقي الشهرة والقبول يتم بكتابة النص المغلق غير مدركين أن الجمال قرين البساطة والوضوح المضيء لا قرين التعقيد والغموض المفتعل.
غير هذا، سمحت اللغة العربية الثرية المطواع لجموع المؤولين والمتفيقهين بتحويل المعاني الجوهرية المحددة في السرديات الدينية الى اتجاهات معينة اتفقت عليها مصالح المنتفعين والمتنفذين في كل عصر لأغراض الهيمنة على الجموع ؛ ففي لغتنا الجميلة الغنية بالمترادفات وإمكانات الالتفاف على المعنى يكمن بعض السر في توظيف المقاصد المضادة لكونها لغة مرنة وبها احتمالات كبيرة للاشتقاقات وتنطوي على إمكانات لانهائية للتلاعب بالفكرة وتدليس المعاني والابتعاد بها عن مقصدها الأساس .
استُغلت هذه الامكانات وأمست لعبة بيد السياسيين الثرثارين الجهلة الذين يقولون قولاً ملمعاً زائفاً يبدو جميلاً ويبعث الأمل لدى البسطاء الذين ينتظرون النهوض بحياتهم وانتشالهم من وهدة الفقر والعوز،ويأتي الاعلام الموجه والفضائيات التابعة للأحزاب والمنظمات والميليشيات ليبالغ في الترويج للخطاب السياسي ويقوّله مالم يكن واردا في متنه ويضفي عليه معانٍ ملفقة على انها وعود فردوسية لتطوير البلاد .
يقلب أمثال هؤلاء المفاهيم ويؤولون المعنى لصالح أهواء ومصالح غير خافية ؛ فيسهل خداع البسطاء ويتعزز سوء فهمٍ لكل شيء عبر التأويل وتمويه الحقيقة وراء كل قول ، أما ( اخوان الصفا وخلان الوفا ) - الذين تعلمنا منهم أن نكون بأنفسنا لا بأي أحد آخر - فقد أسْموا الأشياء بأسمائها الحقيقية دونما التفاف أو مداورة ، ، وقالوا بحرية الاختيار للإنسان ومسؤوليته عن أعماله ونتائجها ومردوداتها المرتقبة ؛ وجعلوا العقل في المرتبة الأسمى قبل كل شيء فالعقل لديهم هو أول الأدلة على التمييز بين الخلل والصواب ، ورفضوا التمييز بين دية الرجل ودية المرأة وزواج الصغار وأعلن أبو عمرو الجاحظ عن موقف المعتزلة من المرأة فقال : ( ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل : أن النساء فوق الرجال ، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر، ولكنا رأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية ، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن ، وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال ، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن )، وقال المعتزلة بأهمية الإحتكام إلى العقل وعدم قبول التأويل الالتفافي في تفسير أمور العبادات والعيش والسلوك وعلاقة الرجال بالنساء مما يؤكد العدالة السماوية والتراحم بين البشر، فكان أن أعلنت السلطة المراوغة الحرب عليهم كما فعلت مع جميع العقلاء في تاريخنا الانساني .