TOP

جريدة المدى > عام > فن التعويض.. وفنون مسح الصفات

فن التعويض.. وفنون مسح الصفات

نشر في: 30 يونيو, 2018: 07:15 م

ياسين طه حافظ

ضياعنا الكبير بين البطل المُتَخيّل والبطل الحقيقي، وبين مظهرية البطل وحقيقته، في واقعه اليومي. هذه الازدواجية جعلتنا نألف ناساً من اولاء، مما تقدمه الكتب والحكايات نعرفهم عن كثب وناساً يحملون صفات اولئك اللفظية ولنا عنهم حقائق أخرى وصفات.

 

انتقال الصفات من الكتب والمرويات الى ناس الشارع الى الناس العاديين، هذا الانتقال للصفات، يسبب لنا رجّة قناعات .فهولاء (( الأبطال)) من ناسنا عاديون أفكاراً وسلوكاً. هم أيضاً بين استقامة ومفاسد، خونة في حال وأمناء يستشهدون او يضحون في حال.
وهنا نقف وسطاً ونسأل أنفسنا: من هو الحقيقي بين من نقرأ لهم اوعنهم واولاء حين نعمل معهم أو نشاركهم التخصص أو العمل السياسي أو المنافسة على فرصة. أو مكسبٍ؟ يبدو أن عالم الشخصيات البطولية هو عالم كتب وتصورات أو هو عالم تمنياتنا نحن بأن نكون كذلك أو بأن نجد من هم كذلك.
المسألة، كما يبدو لي، إننا في الأدب نحقق أمنيات, ونحن في الكتابة نحرك الشخوص والأفكار لاحتمالاتنا. ولكي نصل أو نحقق ما نتمنى ، فهل الأدب فن تعويضي؟
الإجابة عن هذا السؤال صعبة، ولكنها بالنسبة لي، واعذروني لهذا، واضحة: هي كذلك. نحن نرسم شخوصاً أصيلة مصفاة حيناً، ونحرف مسيرة هذا ومسيرة هذه ونصوغ كلام هذا أو ذلك، ونعكس ترددنا في تردد هذا أو هذه.
بعض من صفات الأبطال كانت احتياجات أزمنتهم. مضت الأزمنة، وبقينا نقرأ ونصحب أولئك الشخوص أو الأبطال. شخوصنا ما عادوا من تلك الأنماط الأصيلة ولا أنفسنا. شخوص اليوم ليسوا أبطال السمات والأوصاف هم بلا ملامح نهائية. واحدهم اليوم متأمل متشائم اعتيادي وبخيل بائس وقد يكون قوياً فارساً لكنه يتملق رئيس دائرته. ويسترضي برخص. هو أديب معتز بنفسه وفنان وتجده صغيراً حد التفاهة جوار سياسي في موقع، ودبقاً في سلوكه مع سيدة جاورته، فلا عشق كبير، ولا عقيدة عظيمة. لا قوة شخصية، و لا احترام لقوته الداخلية أو جذوة البطولة فيه. هو عالم عيش مختلط وناس مختلطو الصفات والملامح . هل يمسحنا التشابه؟
ما أتحدث عنه ليس جديداً ولست أول من انتبه له . إليوت الذي أُجِلّ رصانته، قال إن شخصيات قصيدته الأرض اليباب، لا تتميز الواحدة عن الأخرى كما ان شخصيات فرجيينا ووف تبهت الواحدة في الأخرى. وأنا شخصياً أصبح مثل ايّ آخر ينتظر دوره في مراجعة مدير أو وزير ومثل أي يساوم أو يسترضي، وطبعاً مثلهم في العيادة طلباً للشفاء ومستسلماً لما سيقال.
إذن نحن في الكتب نرى أبطالاً بخصال أبطال كاملة منتقاة لترضينا أو لتريحنا أو لتنفس عن غضبنا. وفي الحياة اليومية لنا سواهم، مختلفون عن اولئك في عالم الروايات والملاحم أو القصائد الكبيرة. نحن شخوص غير مستقري الصفات.
وأحدنا بطل وغير بطل وعظيم ووضيع. تختلط الأحوال والصفات تتحرك، تحضر وتغيب، وبدائل الخصال الكريمة قد تحل رداءات يراها ويعرفها المقربون والمشاركون في عمل أو سفر أو عند أي احتكاك وخصومة. والناس ليسوا هم الذين نقرأ عنهم أو نسمع عنهم ولا حتى من نراهم. أظننا لوحدثت في عالمنا تجربة ضخمة، وستكون مرعبة، بأن تتهيأ قوة تستطيع رفع الغطاء عن حقائق الناس، رجالاً ونساءً، لعم الرعب العالم ولتساقطت كل معارفنا وقد بدت الحقائق الخافية وراءها.. البشر عرفوا كيف يألفون الكذب والتستّر ويرسمون لها قوانين وأعراف ويتم اتفاق ضمني على بقاء مايستر حقائقهم. وهم أيضاً عملوا على صناعة خصال وأبطال بما يعوض عما فيهم. والأدب هو أكبر عالم للمخادعات وللتزييف، كما هو للارضاء. ورد الاعتبار. إيهام نحتاج له، هو فن التعويض حقاً! كلهم ليسوا كما قرأنا عنهم، وليسوا كما نعرفهم ونظن. هم ابداً ليسوا بحقائقهم كاملة: قيس وليلى، هرقل، هاملت، الاسكندر، ستالين وهتلر، كما المتنبي، الجواهري، وانا وانت والاخرون. وطبعاً ابطال القصص والروايات من صناعتنا
اعود لموضوعنا بعد هذه الزوبعة، فاقول: في عصرنا لا بطولات اصيلة صافية بسجابا منتقاة. الشخصيات مختلطة الاحوال والملامح ،متغيرتها. هي تحمل صفات وملامح ما يحتاح له ناس عصرها وتحولاتهم. والناس اليوم اكثر تغيراً واختلاط صفات وقلقاً. الناس تتغير احوالهم لا بين موسم وموسم ولكن بين ساعة و ساعة إذا حكمت الحاجة!
لنقر بحقائحقنا البشرية ووضعنا البشري، نحن لنا في الأدب المروي والمكتوب ما يعوضنا عن فقد كأن نكون عشاقاً عظاماً، ابطالاً حربيين ، اصحاب يراعات و نعيش أجواء لهو وملذات ونكتشف أو نحظى بمال أو جمال.. بالنسبة لنا، نحن فقراء المقاهي او الوظائف الصغيرة، هو ملكيتنا البديل، لكن كل الأدب، كل الملاحم والروايات ما استطاعت ولن تستطيع إزاحة نسبة من الزيف في هذه السعادات او الانتصارات او الاحلام اوالبطولات. كتاب الادب المعاصرون ، المثقفون، يعرفون اليوم كيف يصنعون شخوصاً يحملون معاً بؤسنا واحتياجاتنا واحلامنا. يجمعونها من كلامنا وسلوكنا. هم معاصرونا المثقفون يكشفون في بروق ما وراء مظاهرنا. بل احياناً يعروننا تحت اضواء قوية واسعة يسلطونها. وهؤلاء بثقافتهم ووعيهم الانساني يعرفون، كم صرنا في عالم اليوم متشابهين في كثير من سلوكنا وكم ينقص حقائقنا الظاهرة من رسوخ.
انتهى الزمن الذي يرينا مؤلفو الملاحم والروايات الضربة القاتلة والإطاحة بالخصم بضربة سيف، لكنه لايصف لنا ألم اختراق السيف للاحشاء ولا ما أراد أن يقوله القتيل ولا يفسر نظراته الأخيرة وهو يغيب. كما إننا لم نعد نرى شخوصاً صافية أصيلة صفاتهم قدر ما نرى شخصيات توظف ذكاءها وتجاربها لتتكيف والمواقف ولتعود من بعد بخسارة روح أو بربح ضئيل.. الأبطال القدامى زائفون مصطنعون أو هم ناس أخفوا حقيقة وشراسة تناقضاتهم وظهروا لنا بما شاؤوا أن يراهم الناس...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

اليابان تسجل انخفاضا قياسيا في عدد السكان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram