نعيم عبد مهلهل
روت كونسويلو أسونثين، أرملة الكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت إكزوبري (1900 ـ 1944)، في «مذكرات الوردة»، الذي صدر عام 2000، عقب وفاتها، أن زوجها وصف لها ذات يوم مشاعره كغريق تحطمت طائرته فوق البحر فقال: "إنه من السهل أن يموت الإنسان غرقاً. دعيني أروي لك ذلك: يجب أن يدرك المرء بسرعة، إنه لن يستطيع تنفس الأوكسجين، بل يجب أن يتنفس الماء بواسطة رئتيه: ينبغي ألا تسعلي، فالماء يجب ألا يتسرب عبر أنفك. ستشعرين بالراحة، مثلي، وأنت تتنفسين جرعة الماء الأولى ". إنه بارد، وكل شيء سيكون على ما يرام بعد ذلك
ليلة ما عندما كنت أعيش سعادة اكتشاف اكزوبري اكتشف يومياته امرأته وتحدثت الى زملائي عن مشاعر الغرق التي تسكن رجل يعيَّ ، فيما لانعرف نحنُ المشاعر التي تسكن أجساد الذين يغرقون هنا واغلبهم من الاطفال وفي فصل الصيف .
ولأني أريد أن أبقيَّ الليل معي في جمالية ما كان يراه الروائي الفرنسي وصاححب أشهر بريد في تأريخ الأدب بعد المارثون الإغريقي ورسائل الزاجل العربي ، وما كان يرسله روميو الى جولييت ، أصبحت روايات إكزوبري وبريده الصحراوي متعة للغة والخيال وصار المزج بين صحراء إكزوبري ومياه أهوار جلجامش مهمة روحية تذكرت فيها حلم أحدهم أن تكون صحراء مراكش مع امرأة فرنسية هي ما كانت تتخيله شهرزاد وهي تقص على شهريار حكاياتها الغرامية.
في ذلك الليل حيث صوت القصب مثل همس غرام بين الريح والماء وشهوة السمك الغافي في قاع الطين عندما كنا نتصفح رواية بريد الجنوب وكل منا يحمل حقيبة رسائله الى أمكنة بعيدة يريد بها الوصول الى أمنية حتى لو كانت واحدة من مدن الصحراء التي كان أكزوبري يرى الغرق في رمالها نشوة الحصول على المطلق الشجاع الذي يمكنك بواسطته أن تتحول من انسان عادي الى اسطوري.
أغرم صديقي المعلم بروايات اكزوبري واطلق كلمته :الرواية الجميلة هنا تكون بحجم المستشرقين والمغامرين ورجال الآثار. تلك فحوى رسائل اكزوبري لنا ، علينا أن نستوعبها....!
ذات يوم أبقى المعلم لنا روايات أكزوبري التي اشتراها من مكتبات بغداد وبيروت ورواية أخرى هي الامير الصغير أرسلها له صديق من مدينة ( مكناس ) تعرف عليه بركن التعارف في إحدى المجلات ، أبقى لنا تراث اكزوبري منضودا بين كتب الدولاب الحديدي في مكتبة المدرسة وهاجر الى مكان لم يعرفه الجميع.
انتظرناه في بداية العام الجديد ، لكنه لم يداوم كبقية المعلمين ليمر اسبوعين ويتم اعتباره مستقيلاً...
مرت سنوات ، وكلما تصادفني رواية لسانت اكزوبري أتذكر صديقي المعلم وأتساءل أين هو الآن ...؟
ذات يوم في عودتي الى المدينة الأمّ صادفت في السوق أخ المعلم الذي كان مغرماً بالروائي الفرنسي وأول أسئلتي له : أين زميلي المعلم ثامر ؟
دمعة قفزت في عينيه .
وقال :لقد توفي هناك دون أن نشيع جثمانه .
مع دموع أخيه جاءت القصة : لقد هاجر قاسم الى المغرب ، وعشق سياحة الصحراء ومحاولة التمتع بالغرق في الرمال وذات مرة كان يمارس حلمه بين التلال الرملية بعد أن كان يعمل دليلاً سياحياً مع امرأة فرنسية .
غابا وتاها في عاصمة رملية شديدة في الصحراء وبعد مرور شهر وجودهما فوق احد التلال الرملية غافيان بقوة وكأنهما يمارسان الغرام للتو....!