ناجح المعموري
قراءة ما أنجزه القاص والروائي سعد محمد رحيم ثقافياً ومعرفياً ، سيكشف لنا بأنه عقل ثنائي ومركب ، وحقق نجاحاً وتميزاً في انجازاته في المجالين المعرفي والسردي ". وحتماً الوسط الثقافي يعرف بالتفاصيل قدراته الابداعية بالسرد ، وما حققه من انجازات ونجاحات مهمة جداً . لكن الاطلاع على جهده المعرفي محدود ، حتى في الوسط الثقافي والادبي المجاور اليومي بالعلاقة معه . وللأسف كان موته التراجيدي سبباً لعودة عدد قليل من الاسماء النقدية والثقافية لما أنجز في المجال المعرفي . أستطيع أن اقول بأنني تابعت سعد محمد رحيم جيداً من خلال صحيفة المدى التي نشر فيها كتبه الثقافية والمعرفية على حلقات وكنت سعيداً به ، وكان فرحاً ومبتهجاً عندما احتفى به الاتحاد العام للادباء والكتاب / في العراق عندما تم اختيار روايته مقتل بائع الكتب . تحدثت عن الرواية التي لم أنشر مقالتي عنها وأكدت على الفضاء الفكري العميق وتميزه معرفياً واطلقت عليه صفة مفكر وأنا أول من قال ذلك ولم يكن هذا مجانياً ، بل نتاجاً لمتابعتي الدقيقة له واقتنعت تماماً . بأن سعد محمد رحيم عقل تنويري من طراز خاص ، وسأحاول التعريف تدريجياً بما حقق في هذا المجال الحيوي والصعب والمعقد في آن ، لأن القاص لا يقرأ غير السرد والشاعر مكتف بما لديه من دواوين . لذا ظل الوسط الثقافي فقيراً بالتنوع ومزدحماً بالتكريس الادبي ، وهذا أمر عام في الوطن العربي ، مع وجود استثناءات قليلة .
***
آثار كتابه " أنطقة المحرم " المثقف وشبكة العلاقات مع السلطة كثيراً من الاسئلة والملاحظات ، لان مثل هذا العنوان حيوي وجوهري بالنسبة لنا ، لاننا ما زلنا نعاني من تذبذب وتوتر العلاقة مع السلطة التي تعتبر نفسها السيدة الحاضرة ، وتجاهلت اهمية المثقف ودوره الاجتما ــ ثقافي والسياسي المعروف في تجربة التحول الديمقراطي وابداء الملاحظات حولها .
اكتشفت بأن سعد محمد رحيم قدم مبكراً التماعات ملحوظة عن دور الأدب ، أثناء التحولات التي شهدها المجتمع العراقي بمعنى ، لم يكن المثقف سلبياً ، بل أدرك ما يجري ، ونتعامل معه بوصفه تاريخاً مثلما ذهب لذلك إدوارد سعيد ، بمعنى : إن التاريخ سرد يستجيب للتأويل ، ومثلما هي الفلسفة والأدب كما قال هارتيمان . وأنا واثق من تداخل هذا الرأي الحيوي موزعاً بين عديد من الاسماء المعرفية التي عملت على هذا التنوع وكانت العتبات البدئية التي كرست مفهومه الاول ، بوصفه مجموعة من الوثائق والوقائع واقترحته نوعاً من السرد ، وأخرجته من ذلك الفضاء الى ما هو جديد ، تحولت الوثيقة الى مصدر مهم في قراءة التاريخ والكشف عن الخوافي فيه . وكان الدور المهم في ذلك للفلسفة ، ومثلما عمل ميشيل فوكو في عملية الموسوعيين " تاريخ الجنون / تاريخ الجنسانية " وما تحقق في هذا المجال الفلسفي الريادي والذي لعب دوراً جوهرياً في التأثير على العلوم الانسانية كلها ، والشواهد على ذلك كثيرة في المجال الانثربولوجي وسوسيو الثقافة ، والموقف من السلطة وهي تعيد انتاجها للخطاب ، بما يساعدها على المراقبة والمعاقبة بحيث اقتران الخطاب بالسلطة . وظلت فلسفة النظام السياسي والاجتماعي تبتكر العناصر الجديدة المساعدة له ، او تلك المجالات المعززة لكيفية المراقبة والاخضاع .
ووسط هذه التحولات التي شهدتها الثقافة " الدراسات الثقافية " وتأثيرات مدرسة فرانكفورت الفلسفية وحصول طفرات جديدة ، لكنها لم تعلن البراءة عن الذي كان قبلاً ، وعلى سبيل المثال الانحراف الايجابي الكبير . بالعلاقة مع الأدب ، واهتمام الدرس النقدي الجديد بما خارج الادبي والابداعي ، والعناية بمجالات اخرى ، حيث اتسعت مهيمنات الثقافة التي صارت مجالاً كبيراً ، استدعي الكثير من المفكرين اليساريين الذين كرسوا نوعاً من الاشغال النقدي ، وتوظيف العلوم الانسانية ، لتقديم كشوف غادرت التمركز الابداعي والبلاغات والجمال الحصري وهنا ووسط هذا الانشداد بتجربة جديدة ، واجهت صراعاً قوياً من بعض فلاسفة فرانكفورت وحصراً الاكثر اهتماماً بالجمال والفنون مثل فالتر بنيامين . لكن هذا لم يؤثر على فضاء الدراسات الثقافية بل كرست كل جهودها من اجل التوجه نحو قطاعات واسعة من الجماهير التي كانت وظلت ضعيفة العلاقة بالدراسات الأدبية والجمالية . وكان ما حققته الدراسات الثقافية طفرة كبرى قادها عدد مهم من المع المثقفين والمفكرين اليساريين الذين مثلوا امتداداً لمدرسة فرانكفورت . مثل هذه المتغيرات وما تؤسسه أو تقترحه في الحياة العامة من تأثيرات كبرى ، كانت المنطقة العربية الاكثر استعداداً لتلقيها مع تحققات النقد الثقافي . هذا كله يمثل لسعد محمد رحيم عتبة ثقافية ومعرفية جديدة ، لم تتقاطع من مكوناته الاولى والتي ايقظتها الانشغالات الجديدة التي اشرنا لها ، وكرستها علاقته المباشرة مع الفلسفة ، لان الاهتمام بالثقافة وخطاب السلطة ودور الشبكات الرمزية في تنوع المجالات الاجتماعية والسياسية ، يحتاج لكشوف الفلسفة.
***
لم يعد التاريخ سجيناً في الوقائع والوثائق فقط ، بل غادرهما وحاز صفة السرد ، عندما قال هايدن وايت : التاريخ حدود واضحة ، لا تختلف عن الحدود التي يتمتع بها السرد ، وهذا سحب كل هذا الكم من الذاكرات القديمة والحديثة ودخلت فضاء الدراسات الثقافة والنقد الثقافي وحققت التجارب الجديدة في هذا المجال ما هو مثير وملفت وصار له طاقة كبرى وقوة لامعة لتحشيد أوسع وأعمق في الدرس الاكاديمي ولعل تجربة " بواز شوشان " في كتابة شعرية التاريخ / تفكيك تاريخ الطبري ووظف كل منجزات الدراسات الثقافية والتي سعت من اجل تطبيق الشعرية مفهوماً أدبياً وجمالياً وتفكيك الراسخ من التواريخ . ومثال ذلك تاريخ الطبري وكسر كلياً وجاهته وما تمتع به من هيمنة في دعم وقائع وترسيم مرويات تارة ، بحيث تخلخلت كلياً ، وهذا ما فعله شوثان ــ على سبيل المثال ــ بتراجيديا كربلاء . والمثير للانتباه ان هذه المحطة ستفتح النوافذ واسعة ، مستجيبة لشعرية التاريخ التي ستستدعي ــ حتما وسائل تعبير جديدة مستقبلاً المناهج الادبية والابداعية القادرة على التعامل مع التاريخ وتطبق عليه ، من اجل التوصل الى كشوف جديدة ، نقية ونظيفة من الاوهام والخرافات ،وهذا هو المراد والحلم الذي سعت إليه حركات التنوير وسيادة العقل بالعلاقة مع التراث العربي الاسلامي وتطهيره من خرافاته وأكاذيبه ، حتى نحوز ماضياً نقصده ونتعامل معه ، باعتباره نتاجاً للعقل في حقب سابقة ونوظفه في حاضرنا للافادة منه واخضاعه للتأويل المستمر ونزع وجاهته وقداسته . لان العقل قادر على فعل ذلك والنجاح وهذا ما تؤكده تحققات عصر الأنوار ، لكننا مع ضرورة استثمار لحظات الجدل وتعميق الاختلافات مع التيارات المحافظة والسلفية والذهاب نحو نهاية المعركة والقبول بما يحصل فيها من خسائر عرفتها حركة النهضة الثقافية منذ لحظة رفاعة الطهطاوي .
وبودي الإشارة للاسلامويات العربية المتنوعة التي كرستها الانظمة الدكتاتورية ، والشوفينية وجعلت منها قوى ذات سطوة مجتمعية مثلما في مصر وتونس مع نماذج اخرى لا تقل خطراً ، لكني اعرف جيداً بأن مثل هذا المشروع العراقي ممكن وطويل مع شرط حضور العقل وسيادة الحوار وقبول التباين وتأمل التحققات التي تحصل على قاعدة واسعة مجتمعية . هذه المعركة لها قادة تميزهم التباينات في الأفكار والتصورات وتوحد بينهم اتفاقات حول الأطر الجوهرية التي أشرنا لها . وعلى المثقفين والنخب المعرفية على الرغم من قلتها أن تركن للحوار والتبادل الحر والتواصل الموضوعي وعدم التوقف في اللحظة التي تطفر فيها قوى العالم الأسفل الى السطح . ومثلما قال القاص والمفكر سعد رحيم :
المثقف صوت مشدود / متوتر بين الواقع والعقل والسؤال والجواب . والذي ينفتح ــ حتماً ــ نحو سؤال آخر عن المعلوم والمجهول ، بين ما هو قائم ، وما هو محتمل .