لطفية الدليمي
تعاني بيئتنا العربية مشكلات هيكلية مزمنة تتطلّب عملا دؤوباً لتخفيف آثارها في حياتنا الراهنة والعمل على تجنب آثارها المتوقّعة في العقود القادمة التي نتوقع أن تشهد تفاقماً خطيراً يتطلّب العمل بحكمة وصبرعبر توظيف كلّ الوسائل الكمّية المتاحة ، بعيدا عن العصبيات والعواطف الدفاقة و الرؤى المشوشة التي تقدمها الانحيازات الثقافية المسبق للفئات الحاكمة.
تتجذّرُ أصول المشكلات الهيكلية العربية في اعتماد اقتصاديات معظم بلدانها على الريع النفطي ، أو في شحّ السيولة المالية في بلدان أخرى، وقد ترتّبت على هذه الهيكلية الاقتصادية اختلالات واسعة النطاق وعميقة جعلت الفرد العربي – نتيجة استفحالها - يميل للركون وإلى الدعة والاسترخاء والاعتماد على التوظيف الحكومي الواسع الذي يستفيد من الفوائض المالية النفطية في سلسلة مشتبكة يرى بعض الواهمين أنها ستستمرّ إلى ما لانهاية؛ وهو الأمر الذي يتوقع أنه يقترب من نهاياته بعد أن شهدنا في السنوات القليلة الماضية تطويرا ثوريا لمصادر الطاقة المتجدّدة ووضع خطط عملاقة لتصنيع السيارات الكهربائية على نطاق واسع، ولا ينبغي تصوّر الأمر على أنّه نكاية أو رغبة مرضيّة في الانتقام من البلدان النفطية التي تنعّمت بعوائد مالية ضخمة لعقود طويلة ؛ بل إنّ الأمر لا يعدو استجابة عملية مطلوبة للتعامل الجاد مع حالة فرط الاحترارالأرضي التي باتت تهدّد بمخاطرها الحياة البيولوجية على كوكبنا.
قرأت أواخر التسعينيات كتابا بعنوان “صور المستقبل العربي” ساهم في كتابته أربعة من المتخصصين العرب في حقل الدراسات المستقبلية والتنمية التقنية والاقتصادية ، و ترك الكتاب في نفسي أثراً بالغاً ؛ إذ كان الكتاب الأول الذي رأيت فيه توظيفاً دقيقاً لما يسمّى بأدوات التحليل الكمّي واستقصاء المتغيرات الحاكمة للنشاطات البشرية في مختلف حقول النشاط الاقتصادي، وكان من العلامات المؤشرة لأهمية الكتاب وفرادته المميزة أن ظهرت نسخة باللغة الإنكليزية منه ؛ مما يشير الى أن واضعي الكتاب العرب سعوا لمخاطبة العقل غير العربيّ إلى جانب العقل العربي، وقد حفزني هذا الكتاب على متابعة كل جديد في الدراسات المستقبلية .
هناك الكثير من الدراسات المستقبلية الموضوعة باللغة الإنكليزية، وقد تُرجِم بعضها إلى العربية ، - من بين تلك المؤلّفات- كتاب بعنوان "العالم بعد مئتي عام" صدر ضمن سلسلة كتاب عالم المعرفة في ثمانينيات القرن الماضي، وكان كتاباً رائعاً يتضمّن رؤى استشرافية عن أحوال عالمنا ووضعنا البشري، ويمكن الإشارة أيضا إلى كتاب مهم آخر هو "عالمنا المشترك" الصادر ضمن السلسلة ذاتها وهو من منشورات منظمة الأمم المتحدة للبيئة ويركّز- كما يشير عنوانه- على الجوانب البيئية المرتبطة بالنشاطات البشرية وتأثيرها المتوقّع على كوكب الأرض في العقود القادمة.
ثمة أمر آخر يمتلك أهمية بالغة يختصّ باقتصاد المعرفة وضرورة تخصيص نسبة مالية جيدة من الإنفاق الحكوميّ العام للنهوض بالقطاع التعليمي الذي يعوّل عليه في خلق كفاءات بشرية تجيد التعامل مع الفعاليات التقنية-الاقتصادية المستقبلية - التي ستقود البشرية في سبل الفتوحات المعرفية الخلاقة عندما لاتعود هناك حكومات تعتمد الفوائض الريعية في الإنفاق على مجالات توظيف غير منتجة تكرس الاتكالية والبطالة المقنعة.
المستقبل العربيّ ليس مظلماً أو كئيباً كما قد يتغنّى بعض المسكونين بالقنوط المطلق والرغبة في إطفاء شعلة الأمل والعمل الجاد لتغيير الواقع؛ غير أن الأمانة تقتضي منا الاعتراف بكوننا خسرنا الكثير من الفرص ولم يبقَ لنا الكثير لنخسره في سياق سباق عالميّ لن يكون أي مكان فيه للمتخاذلين أو المرتكنين على أنساق فكرية متهالكة ثبت عجزها وبطلانها.