علــي حســين
| 6 |
لم يسبق أن رأوا آباهم في وضع بائس كهذا، فعندما توالت الأحداث العاصفة في ألمانيا بداية عام 1933، كان توماس مان في رحلة خارج البلاد، وقد استقر رأيه بأنه لايستطيع العودة إلى بلاده، فقد أصبح هتلر مستشاراً لألمانيا، قبل هذا التاريخ بثلاثة عشر عاماً كان هتلر قرر أن يغير اسم حزب العمال الألماني الى حزب العمال الألماني الديمقراطي الاشتراكي، معلنا صعود تيار القومية، وقبل هذا التاريخ كان توماس مان قد أصدر روايته الشهيرة"آل بودنبروك"وفيها يتنبأ بانهيار المجتمع الألماني..كان توماس مان قد هاجم صعود هتلر وحزبه من خلال الإنتخابات، فقد كان يرى أن هناك اشتراكية عسكرية في الأفق، كتب في إحدى الصحف :"بنفاق الجماهير..بالكذب على الخصوم..بالألعاب والهدايا..بالتهديدات والضربات..وقبل كل شيء بالأموال.المال هو الذي ينظم العملية لصالح من يملكونه، وتصبح لعبة الانتخابات سابقة الإعداد، وتقدم على أنها تقرير مصير".
كانت رواية توماس مان، تقدم حكاية عائلة باعتبارها قصة المانيا والصراع الدائر فيها بين المبادئ والمصالح، وتوماس مان يدرك أن السلطة ستصل إلى ايدي مجموعة مغرورة من المغامرين والجنرالات المتسللين والقادة المزيفين، يعتقد كما كتب في العام 1922 إن أحد هذه النماذج ظهر في شخص ادولف هتلر، كان النازيون كلهم تصميم على إخضاع الثقافة لسيطرتهم، وهو الأمر الذي بدأوا بتنفيذه بالفعل بعد صعود هتلر للسلطة عام 1933، حيث أصبح منظراً مألوفاً حرق الكتب وطرد أساتذة الجامعة، ففي شهر واحد طُرد ألف وسبعمائة من اساتذة الجامعات بحجة إنهم يساريون، فيما قرر عدد كبير من الأدباء والمفكرين الهجرة خارج ألمانيا هرباً من مضايقات كتائب الشباب بقمصانهم البنية وأشرطة الأذرع المرسوم عليها الصليب المعقوف.
بدأت مخاوف توماس مان تزداد بخصوص عدد من الدفاتر التي خبّأها في درج مكتبه في ميونخ. كانت الدفاتر تحوي يومياته التي يخشى عليها أن تقع بيد النازيين. وبعد ثلاثة أسابيع من القلق بعث توماس مان مفاتيح الأدراج لأبنه غولو الذي بقي في ميونخ، طالباً منه أن يقوم بشحن تلك الدفاتر بعد ان يضعها في حقيبة محكمة الإغلاق ويرسلها عن طريق القطار يكتب لأبنه :"إنني واثق من حسن تصرفك، وبأنك ستكون حريصاً على سرية الأمر"، في السابع عشر من آذار عام 1933، يرسل الأبن الحقيبة الى محطة القطار بيد أحد معاونيه"هانز هولستنر"الذي اتضح فيما بعد إنه مخبر نازي، والغريب إنه ذهب بها الى محطة القطار بعد أن بعث تقريراً الى الشرطة السياسية، وفي محطة القطار كانت هناك تعليمات من الشرطة الحدودية بتفتيش الحقيبة، فقد كان يعتقد أن بها منشورات سياسية، أما الدفاتر فقد نظر إليها بوصفها مسودة لرواية، توماس مان يتلقى في ذلك الوقت خبراً جديداً، الشرطة السرية تستعد لتفتيش منزله. في الثاني من أيار وبعد انتظار طويل، جاء الخبر القاطع بان الحقيبة موجودة في الأراضي السويسرية يكتب توماس مان :"راحة عميقة وقوية أن تشعر بأنك نجوت من خطر محدق، يصعب وصفه، ولعل مثيله لم يوجد من قبل".
كان حامل جائزة نوبل – حصل توةماس مان على الجائزة عام 1929 -، يعد نفسه المانيا يعيش في الخارج، لكنه بين الحين والاخر يطلق تصريحات ضد نظام الحكم، وصف النازيين منذ وقت مبكر بانهم :"أعداء الفكر ولا يهمهم أن يعلموا أو يتعايشوا مع أية فكرة، بل يفضلون أن يروا للجماهير سادرة في الغباء، إنهم يمرغون بالتراب ويدوسون على كل ما نعرفه مما له صلة بالحقيقة والكرامة"، لكن برغم ذلك فان كتبه ماتزال تباع في المكتبات الألمانية، كانت ثمة مجموعة من نظام الحكم تريد ترك توماس مان وشأنه، إلا أن غوبلز ظل يثير حفيظة الفوهرر ضد الكاتب"المشاغب"، وبعد مداولات وخلافات بين أعضاء الحزب النازي ينتصر الجناح المتشدد. بعد سنوات وفي العام 1938 تتخذ السلطات الالمانية قراراً بحرق مؤلفات توماس مان ومنعها من التداول.
في رواية"فهرنهايت 451"يروي لنا الكاتب"راي براد بري"قصة مدينة واقعت تحت إرهاب النار، حيث مهمة رجال الإطفاء فيها ليس إخماد النار وإنما إشعالها، والغاية من ذلك هي إحراق أي اثر للكتب..ولأن المدينة تشعر بالخطر على ذاكرتها الثقافية، يجتمع المثقفون والكتّاب ومحبو الكتب للتباحث حول أفضل طريقة لحماية هذه الكتب من النسيان والضياع، فيقررون الفرار إلى الغابة، بشرط أن يحفظ كل واحد منهم كتاباً واحداً على الأقل عن ظهر قلب، وفي الغابة يقومون بترديد ما حفظوه حتى لاينسوه مع مرور الزمن، وليلقنوه أيضاً لأبنائهم من بعدهم، وتحصل المفاجأة حيث يهرب أحد رجال الاطفاء ممن كانوا يوقدون النيران لحرق الكتب، ليصبح في النهاية كتاباً في الغابة.
كتب توماس مان في أحد رسائله الى صديقه الكاتب المسرحي برتولت بريشت :"وصيتي الشخصية في غاية البساطة، أرجوك أن تحافظ على كل ورقة تكتبها، انها ملك لمن سيأتون من بعدنا".
في السابع والعشرين من شباط 1933، صرخ رجل كان يسير مسرعاً في أحد شوارع برلين :"احترق الرايخستاغ"، في الثامن والعشرين من شباط يَحزم برتولت بريشت حقائبه، ليصبح أول الهاربين من النظام النازي، وفي العاشر من أيار عام 1933 تحرق كتب بريشت أمام الرايخستاغ.
*********
كل شيء غير هادئ في البلاد
صبيحة الثامن عشر من كانون الثاني عام 1933 يستيقظ إريك ماريا ريماك على نشرات الأخبار تعلن تعيين أدولف هتلر بمنصب مستشار المانيا، وها هو عدوّه القديم غوبلز يؤدي اليمين وزيراً للدعاية. مايزال ريماك يتذكر مقال غوبلز عنه والذي طالب فيه بمنع كتاباته لأنها تحرض على الإستسلام، وتنادي بالمانيا ضعيفة تجاه الأعداء، وطافت في ذهنه صور وزير دعاية هتلر عام 1930، وهو يقود مع رفاقه في برلين الهجوم بالقنابل على دار السينما التي عرضت الفيلم المقتبس من روايته"كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، وإجبار الرقابة على إصدار قرار بمنع الفيلم، وماتزال مشاهد كتائب النازية وهم يلوحون بنسخ من روايته وهي تحترق، آنذاك قال له غوبلز هذا اول انتصار أحققه ضدك، وأتمنى أن تنتظر الأنتصار الثاني، وكان قرارا غوبلز بمنع معظم روايات ريماك، حيث ظهر وزير دعاية هتلر من على شاشات التلفزيون يبتسم وهو يرمي بنسخة من رواية"كل شيء هادئ في الميدان الغربي"في كوم كبير من الكتب المحترقة، كان ريماك قد غادر المانيا الى منفاه في سويسرا، بعد أن شعر بقرب وصول الحزب النازي الى السلطة، في تلك الايام كانت رسائل مجهولة تصله باستمرار تهدده بالموت، ولم ينته الأمر بهروبه وحرق كتبه، فلابد من قرار جديد يعاقب الكاتب الذي باع وطنه للاجانب وخان مبادئ ألمانيا، ففي العاشر من حزيران عام 1933 صدر الأمر بإمضاء أدولف هتلر:"سحب الجنسية الالمانية ما إريك ماريا ريماك".
في العام 1927 يقرر ريماك أن يكتب رواية عن هواجس الخوف التي ترافق الانسان وهو يواجه الموت، رواية عن الذل والهزيمة اللذان تليا استسلام ألمانيا خلال تلك الحرب العالمية الأولى قد تحولت إلى نزعة عسكرية ألمانية خطيرة وشديدة الشعبية في الوقت نفسه، وهذا ما يحدث عادة مع الشعوب التي تهزم ويتلو هزيمتها جرح عميق لكرامتها فتتحوّل إلى شعوب تنتظر اللحظة المناسبة للسير في دروب العنف ولتثأر لا لكرامتها، بمقدار ما تثأر من وجودها كأمة مهزومة، ويضيف ريمارك:"لقد كتبت رواية عن الحرب، من الذي يشعلها؟ ومن الذي يستفيد منها؟"، رواية أشبه بصدمة توقظ المواطن الالماني من سباته وتقدم له صوراً مفزعة عن الحرب، كانت المانيا آنذاك تعد العدة للثأر من هزيمتها في الحرب العالمية الاولى، والاحزاب اليمينية ترفع شعار المانيا أولاً، وعندما صدرت رواية"كل شيء هادئ في الميدان الغربي"قال ريماك للصحفيين إن :"ما قدمته من مشاهد مخيفة عن الحرب لم يكن من الخيال، بل هو حقيقي". بسبب موقفها من الحرب لم يوافق أحد من الناشرين الالمان على طبع الرواية التي أرسلها الى توماس مان ليقرأها، فيرسل إليه الأخير خطاباً يطالبه بإعادة كتابتها لأنها في صيغتها الحالية عبارة عن ضباب من الكلمات. ولأن ريمارك يدرك إنه يسير ضد التيار السائد للرواية الالمانية آنذاك، لم يبالِ كثيراً لكلمات توماس مان رغم تقديره الشديد له، فقد كان يدرك في قرارة نفسه إنه مصمم على أن تكون روايته الجديدة مثل حجر ضخم يلقى في بحيرة الأدب الراكدة.
لم يجد أمامه سوى المجلة التي يعمل فيها"الرياضة المصورة"فربما يقتنع رئيس التحرير بطبع الرواية، لأن دار النشر تطبع الكتب أيضاً. ولكن من يغامر بشراء رواية لكاتب مبتدئ في زمن يعاني فيه الناس من أزمة مالية صعبة، يسأله رئيس التحرير عن موضوع الرواية فيجيب:
- الحرب
- أنصحك بأن تمزقها، من يريد اليوم قراءة رواية حربية، يقول له رئيس التحرير.
يكتب لوالده:"الظاهر إن مغامرتي الأولى في الأدب لن ترى النور"، الصدفة تلعب دوراً كبيراً في مستقبله، كان قد أرسل نسخة من الرواية الى دار نشر في بون، وقد وصلت النسخة الى يد أحد الفاحصين في الدار، الذي جلس ذات يوم ليقلب ملفاته فعثر على المسودات فقرر أن يقضي معها بعض الوقت، وبعد صفحات قليلة، يكتشف أن بين هذه الاوراق رواية عجيبة ومؤثرة، يضطر الى أن يعرض الأمر على مسؤولي الدار:
- لقد وجِدت هذه الرواية مؤثرة بشكل غير طبيعي..أنصح بطباعة عشرة آلاف نسخة منها، قال الفاحص فورتيس.
التردد يصيب الجميع.. إلا فورتيس الذي يكمل : إذا وجدتم في الأمر مجازفة، فالخسارة سأتحملها أنا.
وبعد مناقشة دامت أياماً، وافقوا على طبع الرواية، لكنهم اقترحواأن تنشر في البداية على شكل سلسلة حلقات في جريدة"فويس"التي تصدر عن دار النشر، المسؤولون على الصحيفة يعترضون، فالرواية في نظرهم غير مشوّقة، والناس تكره الحديث عن الحرب، والأهم إن الصحيفة لاتنشر إلا لكبار الكتاب من أمثال توماس مان وهاوبتمان وبعض قصص هيرمان هيسه، لكن رأي الخبير انتصر في النهاية وظهرت الحلقة الأولى من الرواية في العاشر من تشرين الثاني عام 1928، ولم يصدق أصحاب الصحيفة ردود أفعال القراء غير المتوقعة، الجميع لا حديث له سوى حكايات الميدان الغربي، وما أن صدرت الحلقة الثانية حتى تجاوز طبع الصحيفة المئة ألف نسخة.
أصحاب دار النشر يعقدون اجتماعاً طارئاً ليتخذوا قراراً بوقف نشر الحلقات، وطبع الرواية كاملة وبمئة ألف نسخة، لكن هذا الرقم يخيّب تقديرات الناشرين فقد نفد خلال ساعات، الكتاب يباع بسرعة مذهلة، وتضطر دار النشر أن تستعين بمطابع أخرى، في بداية عام 1929 تتجاوز المبيعات المليون نسخة، بعد عام تباع خمسة ملايين، لكن الناشر والكاتب يواجهان مشكلة جديدة، فقد تعرضا لموجة شديدة من الكراهية، ريمارك يُتهم بمعاداة المانيا، وتنشر بعض الصحف مقالاً بقلم غوبلز- وزير دعاية هتلر فيما بعد - يصف الكتاب بالقذارة. وإن مؤلفه غير الألماني الذي ينتحل اسماً غير معروف، بل ويشكك كاتب المقال بمشاركة ريمارك في الحرب. الهجمات التي تشنها الصحف الرجعية، تتحول إلى أفضل دعاية للكتاب الذي تتجاوز مبيعاته العشرة ملايين نسخة ويترجم الى معظم لغات العالم. الكتاب يباع بنجاح كبير، ويضطر الناشر أن يستعين بمطابع أخرى لتساعده في الطبع. في عام 1930 تباع منه في ترجماته العديدة أكثر من 30 مليون نسخة.
*********
انهيار الاحلام
بدأ توماس مان حياته قومياً متحمساً للثقافة والفلسفة الألمانيتين المحافظتين، لكن نزعته الإنسانية جعلته فيما بعد يتخلى عن المعتقدات القومية المتعصبة..ولد في مقاطعة لوبيك بألمانيا عام 1875 لأب تاجر حبوب غنياً وعمدة للمدينة، ولأمّ أصولها من اميركا الجنوبية كانت مولعة بقراءة الروايات الرومانسية، عندما بلغ السادسة عشرة من عمره توفي والده، فقررت العائلة المكونة من ستة إخوة وأخوات، فضلاً عن الأمّ الانتقال الى ميونيخ، حيث اشتغل في شركة للتأمين، وبعد أن أمضى فترة في الجامعة توفرت لدية قناعة بترك العمل في شركة التأمين والتفرغ للأدب، فأصدر عام 1898 أول مجموعة قصصية له بعنوان"قصص من الحياة"وكانت إحدى قصص المجموعة تمهد لروايته الكبيرة"آل بودنبروك"التي صدرت بعد عامين، كان توماس مان يريد أن يكتب رواية عن عائلته التي تدهورت أحوالها بعد رحيل الأب، حيث ستدور الأحداث عن الصبي"هانو"ابن العائلة البرجوازية اللامعة"بودنبروك"، إن هذا الصبي كما يخبرنا توماس مان لم يخلق لهذه الحياة، هانو سيكون محور الرواية والأشخاص الآخرين: العائلة، الأقارب، الأصدقاء سيكونون الخلفية والظلال، هانو يشكل نهاية عائلة، عائلة تحتضر، تمحى من الأرض، إنه لشيء محزن بالنسبة للذي عاصر ازدهار هذه العائلة وتفتحها، ومصير الصبي هانو هو مصير توماس مان وهو يشاهد ألمانيا تنهار، سوف لن يروي توماس مان قصة"هانو"، بل سيبدأ قبلها بكثير، سينقب في التاريخ، سيكون السؤال : لماذا يرفض هانو فكرة الاستمرار في الحياة؟، لقد وضع توماس مان لائحة بأسماء الشخصيات، أما صفاتها فسيأخذها من سجلات عائلته، إنه يؤلف رواية أشبه بالتاريخ، صورة تولستوي يضعها على المكتب يؤطرها بالزهور والى جانبها نسخة من"الحرب والسلم"، كان قد أهداها له صديقه هرمان هيسه.
يحوّل غرفته البسيطة في ميونخ الى آرشيف لتاريخ ألمانيا، إنه يريد معرفة كل شيء، سمع مثل صديقه شبنجلر بموت نيتشه، كانت الرواية في طريقها الى النهاية، لكن أسرة"بودنبروك"لاتريد أن تنهار، إنها تقاوم مصيرها، لكنها تشيخ ببطء، كل مقومات اليأس موجودة. عام 1900 يكتب الصفحات الأخيرة، يقوم بحزمها وإرسالها الى إحدى دور النشر، في هذه الأثناء يتم استدعاؤه الى الخدمة العسكرية، انه لايحب طريقة الجيش في الحياة، المارشات العسكرية تثير فيه الاشمئزاز، يصاب بالمرض، أشبه بكآبة تخللتها حالات من الفرح حين أرسل إليه الناشر رسالة يقول فيها إن الرواية جميلة جداً لكنها طويلة، ويقترح الناشر اختصارها الى النصف، اقتراح مرفوض فهو أراد أن يكتب تاريخاً كاملاً لايمكن اختزاله، قد يكون الناشر محقاً لكنه لن يرضخ لشروطه، لايمكن الاستغناء عن أية صفحة من صفحات الرواية، ويعفى توماس مان من الجيش بسبب مرضه، الناشر يرضخ أمام إصرار المؤلف لتصدر"آل بودنبروك"عام 1901 مع عنوان فرعي"سقوط عائلة"، ويقرأها الشاعر ريلكة فيكتب في إحدى الصحف :"هذه الرواية ستعيش مع الزمن"، خلال الحرب العالمية الأولى ستكون على قائمة الأفضل مبيعاً لتصل مبيعاتها الى ثلاثة ملايين، إنها المانيا التي على وشك السقوط، يكتب توماس مان بعد سنوات ليجيب على سؤال طرحه عليه شبنجلر حول نبوءته بتفسخ العالم القديم كما جاء في آل بودنبروك :"لم يخطر لي بأي حال، إني في هذا الكتاب قد أعطيت شيئاً هاماً يتخطى حدود الفن وحدود السيرة الذاتية، وإني قد قدمت صورة للحياة في هذه المدينة في القرن التاسع عشر، أي شيء من التاريخ، ولم يخطر لي أن إنجاز هذا العمل يعود الى ما يتضمنه في نفسي الآن من التاريخ الذهني للبرجوازية الألمانية على وجه الإطلاق، شيء ثالث لم أتخيله في أية صورة من الصور، وهو إن الاهتمام بهذا الكتاب سيتجاوز موضوعياً وذهنياً حدود ألمانيا وإن قصة انحلال عائلة قد يثير أشجان البرجوازية وإنها قد تتعرف على نفسها في هذا الكتاب من جديد، وبالاختصار لم أكن حين وضعت هذا الكتاب الالماني من حيث الشكل والموضوع إني ربما صوّرت شيئاً من القصة النفسية للبرجوازية الأوروبية".
في يومياته التي نشرت بعد وفاته يعود توماس مان دائماً الى الحديث عن"آل بودنبروك". في آذار عام 1900 يكتب :"أمس فكرت في مصير روايتي آل بودنبروك، مثلما فكرت في مصير ألمانيا التي يريد لها البعض أن تذهب الى الهاوية، أريد أن أجعل من هذه الرواية عالماً كاملاً". كان توماس مان يحرص على أن يقرأ أفراد عائلته كتاباته قبل نشرها، قالت له والدته بعد أن انتهت من قراءة"آل بودنبروك":"حذاري إنك تثير من حولك الغبار"..كان توماس مان يريد أن يندب حظ ألمانيا التي خسرت الحرب. كتب عام 1918 ماذا يردون أن يحرمونا من خبرة غوته ولوثر وبسمارك، لنكيف أنفسنا للديمقراطية! لكن توماس مان لن يلبث أن يتخلى عن نعرته القومية ويتغنى بنعمة الديمقراطية، عام 1936 يكتب اندريه جيد :"في حين يعمل ويناضل خيرة المثقفين الفرنسيين الى جانب فرنسا، فان خيرة مثقفي المانيا يقفون ضد تلك العناصر الشوفينية التي تزج بالمانيا في اتون الحرب". في يومياته يكتب توماس مان عام 1935 :"مع كل الاجراءات النازية الشمولية، فانهم (النازيين) لايستطيعون تغيير قناعاتي".
في عام 1934 ينشر مقالا عن الروح الجديدة البغيضة التي انشرت بين الألمان بسبب الحزب النزي، في تلك الايام أصدر هتلر تعليمات جديدة :"إن حق النقد يفترض أن يقترن بقول الحقيقة"لاشك إن الحقيقة التي يقصدها هي غير الحقيقة التي يبحث عنها توماس مان، لقد رفع غوبلز شعار"إن من لايكذب الآن ليس سوى وغد".
في ايطاليا كان موسوليني يكره توماس مان، ونراه يعلق على أحدث كتاب صدر للفيلسوف الايطالي بنديتو كروتشه، قائلاً :"إنه أهلٌ لكتابة مثل هذا الكتاب، لكن ما أثار غضبي هو انه صدر باهداء لتوماس مان". وعلى مائدة الطعام قال هتلر للحاكم الايطالي موسوليني :"إن توماس مان لايمثل ألمانيا بأي شكل من الأشكال، لم يأت بشيء يخوله بان يدعي ذلك"
في التاسع عشر من نيسان عام 1933، تنشر الصحف الألمانية بياناً ضد توماس مان بعنوان"احتجاج من ميونخ، مدينة فاجنر"كان مذيلاً بالعديد من التواقيع، يكتب توماس مان رداً على البيان :"كانت عودة البربرية في الأزمنة القديمة تُفرض من قبل شعوب بدائية من الخارج، أما الآن فهي تفرض عمداً (كثورة) بمعونة شباب مكيفين للتفكير بسذاجة، إنهم يختزلون كل المصائب الى بعبع العنصرية والقومية".في الثلاثين من نيسان عام 1933 تعرّض منزل توماس مان للتفتيش بحجة البحث عن السلاح، وتصادر سيارته الشخصية مع بعض المقتنيات. في اليوم التالي يقرر هتلر طرد توماس مان من الاكاديمية الألمانية واعتباره كاتباً فاشلاً حيث يلقي خطاباً حول الثقافة، يهاجم فيه الكتاب الألمان الذين هربوا من ساحة المعركة. في اليوم التالي يكتب توماس مان مقالاً يصف به هتلر بانه نموذج لإنسان من الطبقة الجاهلة :"لايملك سوى ثقافة محدودة، إنه ظاهرة تثير الاستغراب. إن الأفكار التي يطرحها بطريقة بائسة ومثيرة للشفقة، ومكررة على الدوام، لاتتجاوز مستوى طالب ثانوية محدود الأفق".