TOP

جريدة المدى > عام > سهرة مع تورغينيف

سهرة مع تورغينيف

نشر في: 21 يوليو, 2018: 06:24 م

أ.د. ضياء نافع

قضيت سهرة جميلة وغير متوقعة بتاتاً قبل أيام مع الكاتب الروسي إيفان تورغينيف ( 1818 - 1883), وها أنا ذا أكتب للقارئ حكاية هذه السهرة الغريبة والطريفة, وما اكتشفته – أثناء ذلك - من وقائع جديدة في حياة وإبداع هذا الكاتب الروسي الكبير.
بدأت الحكاية عندما طرقت جارتنا باب شقتنا, وهي امرأة مسنّة وفي غاية اللطف والأدب والرقة , وعندما فتحنا لها الباب واستقبلناها بالترحاب طبعاً, قالت لنا , إنها تحمل هدية رمزية لنا , وبعد السلام والكلام , تبين إنها تريد أن تهدينا كتاباً من مكتبتها الخاصة عنوانه – ( تورغينيف . الحياة . الفن . العصر.) , وهو كتاب ضخم طوله أكثر من 30 سم وعرضه اكثر من 20 سم ,و يشبه الألبوم الكبير , ويقع في 184 صفحة كبيرة , وقد أصدرته دار ( سوفيتسكايا راسّيا ) ( روسيا السوفيتية ) عام 1988 , وهي دار نشر سوفيتية مشهورة جداً , وطبعت منه 50 ألف نسخة , وبشكل فني فخم وترف بكل معنى الكلمة وبالتعاون مع مطابع المانيا الديمقراطية آنذاك. وقالت جارتنا , إن هذا الكتاب موجود في مكتبتها منذ حوالي 30 سنة , وإنها تعتز به كثيراً , وبما إنها تعرف حبنا للكتب واعتزازنا بها ومحافظتنا عليها , فإنها قررت أن تهديه لنا بمناسبة احتفالات روسيا بالذكرى المئوية الثانية لميلاد تورغينيف , وقالت إنها متأكدة من رعايتنا لهذا الكتاب ووضعه في صدارة مكتبتنا المتواضعة , وإننا سنتذكرها دائما ما أن تقع أعيننا على هذه التحفة الجميلة . شكرناها طبعاً وتقبلنا هذه الهدية القيّمة بكل سرور مع الممنونية . وقد أثارت هذه الهدية اهتمامي الشديد طبعاً , وجلست رأساً للتعرّف على طبيعتها و أسرارها , وقد تبين أن هذا الكتاب بلغتين – الروسية والفرنسية , وتعاون على إعداده و إصداره حوالي عشرة أشخاص من المتخصصين ما بين من يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب , والمتخصص في الفنون التشكيلية والفوتوغرافية واللغوية والتاريخ ...ألخ من الاختصاصات المتنوعة في العلوم الإنسانية .
توجد في الكتاب مقدمة و تسعة فصول , وأمام كل فصل مقولة من مقولات تورغينيف , ونجد في المقدمة جوهر الفكرة , التي أدّت الى إصدار هذا الكتاب , إذ يشير الدكتور بيشولين ( والكتاب من وضعه وإعداده ) , الى أن هذا الإصدار لا يتناول سيرة حياة تورغينيف و ليس عرضاً نقدياً لمسيرته الإبداعية في تاريخ الأدب الروسي والعالمي, وإنما يهدف هذا الكتاب الى التركيز على موقف تورغينيف باعتباره واحداً من شخصيات الثقافة الفنية الروسية بأوسع معاني هذه التسمية , وباعتباره واحداً من نقاد الفن , الذين يتفهمون بعمق طبيعة الإبداع الفني ونفسية الفنانين , ويتوقف بيشولين عند نقطة شبه مجهولة في حياة تورغينيف , إذ تبين أن الكاتب أراد أن يكون رساماً , وحتى إنه درس في شبابه الفن التشكيلي , وكان يكتب عن ذلك ويجمع اللوحات التي تعجبه , وكان دائما ما يزور المتاحف ومعارض الرسم , وإنه كان صديقاً قريباً من الرساميين الروس الكبار في عصره , ويشير الباحث , الى أن القارئ يجد الكثير من الإشارات الى الفن التشكيلي والفنانين التشكيليين على صفحات الروايات والقصص وقصائد النثر التي كتبها تورغينيف , وإن الصور الفنية الرائعة الجمال للطبيعة , والتي رسمها تورغينيف بالكلمات في نتاجاته الادبية جاءت تعبيراً عن عشقه للفنون التشكيلية , أي أن تلك الصور الفنية لم تأت صدفة في إبداع تورغينيف بل نتيجة للارتباط الروحي الأصيل والعميق له مع الفنون التشكيلية بشكل عام .
وكما أشرنا أعلاه , يتضمن الكتاب تسعة فصول , ويتناول كل فصل علاقة تورغينيف بالفنون التشكيلية , وهكذا يتوقف الباحث في الفصل الأول عند تاريخ البورتريتات التي رسمها الفنانون التشكيليون لتورغينيف , ويتحدث عن كل لوحة من تلك اللوحات الشهيرة له ويعيد نشرها بشكل فني رائع , ويتناول الفصل الثاني مخطوطات تورغينيف والرسومات التي رسمها في مسودات كتاباته , وهو تقليد جميل نجده عند بوشكين وليرمنتوف وغوغول ( درس الباحثون الروس هذه الرسومات والتخطيطات عند هؤلاء الأدباء الكبار واستنتجوا منها جوانب نفسية وفنية عديدة لديهم , ولا مجال للتوقف عندها في إطار هذه المقالة طبعاً ) , وينشر الباحث العديد من رسومات تورغينيف وتخطيطاته في مسوداته , وكذلك رسوماته لبعض أبطال رواياته . لقد تمتعت كثيراً مع الفصل الثاني من هذا الكتاب , إذ اكتشفت موهبة الفنان التشكيلي تورغينيف , ووجدت لوحات في غاية الجمال والإتقان رسمها هذا الكاتب الكبير , وتوقفت طويلاً عند نص خطّه تورغينيف لنص جميل بقلمه , نص يرتبط بموقفه من اللغة الروسية وتعريفه لها , والنص هذا هو قطعة نثر رائعة الصياغة ومشهورة جداً في الأوساط الأدبية الروسية , يشير تورغينيف فيها الى أن اللغة الروسية ( العظيمة والجبّارة كما يصفها) تساعده في الغربة وتخفف من توهج شوقه وحنينه الى الوطن, وقد تذكرت اننا درسنا هذا النص في الكلية التحضيرية لجامعة موسكو عام 1960 , عندما كنت أدرس اللغة الروسية هناك , وذلك ضمن مادة ( النصوص الأدبية ) أو ( المحفوظات ) كما كنا نسميها ضاحكين في أوساط الطلبة آنذاك , وكنت عندئذ أحفظ هذا النص (عن ظهر قلب) كما يقول التعبير العربي الطريف , وقررت أن أمتحن نفسي , و حاولت أن أقرأ هذا النص عن ظهر قلب دون النظر الى خط تورغينيف له , ولكنني لم أستطع أن أتذكر غير بداياته , رغم إني تذكرت كل الأجواء التي كانت تحيطني بالكلية التحضيرية في تلك الأيام الجميلة , الأيام الخوالي التي كانت ترتبط ببوشكين وتورغينيف وبقية الاسماء العملاقة في تاريخ الأدب الروسي وأحلامنا الوردية حولهم آنذاك .
ختاماً لهذه ( السهرة!) مع تورغينيف , أود أن أشير , الى أن هذا الكتاب يحتوي على مقولات رائعة لتورغينيف تسبق كل فصل من فصوله , وأختار مقولة واحدة منها على سبيل المثال وليس الحصر وهي – ( هواء الوطن ضروري للفنان ), وكذلك أود أن أشير الى أن هذا الكتاب يحتوي على أكثر من مئة صورة ولوحة له وللفنانين التشكيليين الروس الكبار ولمخطوطات تورغينيف ورسوماته , وإنها مطبوعة بشكل واضح و أنيق ورائع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

اليابان تسجل انخفاضا قياسيا في عدد السكان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram