TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > رصاصة هتلر

رصاصة هتلر

نشر في: 9 نوفمبر, 2012: 08:00 م

شاكست مرةً أستاذة في الأنثروبولوجيا، كانت قد سألتنا عن الفرق بين العلوم الإنسانية والطبيعية، وكانت ترمي لتفضيل الإنسانية على الطبيعية كون الأولى تدرّس الإنسان، وتنشغل بقضاياه، لكنني فضلت مقاطعة هذا المسار عندما أجبتها بأن الفرق يكمن في أن الدراسات الإنسانية لا تستحق أن تسمى علوماً كما هو الحال مع الطبيعية.. وما أن أتممت كلامي حتى هب زملائي الحاضرون للدفاع عن "عشيرتنا التي ننتمي إليها" أقصد الأنثروبولوجيا، وما يلحق بها من علوم اجتماعية، وانهالوا عليّ بما يثبت علمية مجال تخصصننا، وبينما استمتعت بالحجج المتينة التي طرحوها أخبرتهم والأستاذة المحاضرة بأن الغرض من مشاكستي هو؛ الحرص على التواضع أمام الموضوع الذي ندرسه، فلن تستطيع الدراسات التي تتخذ من الإنسان موضوعاً لها أن تجاري في منجزها ما أنجزته العلوم التي تدرس الطبيعة، إذ الإنسان هائل وخطير، هو موضوع مراوغ ولا يسهل الإمساك بخيوط لعبته، لذلك لم تنجز العلوم المعنية به أي نظرية تحصي الأسباب التي تقف خلف أي ظاهرة من الظواهر الاجتماعية.. أما العلوم الطبيعية فقد فعلت ذلك لأن موضوعها يسهل إمساكه وحصره بفضاء المختبر ومقاييسه وأجهزته.
بعد أن انتهت المحاضرة، خرجت وأنا أعدُّ لنفسي الفخاخ التي أوقعنا بها غرورنا المعرفي، ووجدت ساعتها أن فخ التاريخ من أكبرها وأشدّها خطورة، فقد أوهمنا أنفسنا، بأننا قادرون على رسم المسارات الدقيقة التي سارت عليها الأحداث التي تعالج قضايانا المقدسة، بينما نحن لا نملك عن هذه الأحداث سوى مجموعة فضفاضة من التخمينات والتوقعات الغائمة والضبابية.
تابعت قبل أسابيع تقريراً تلفزيونياً وثائقياً يتحدث عن فشلٍ وقع فيه مجموعة من الدارسين الذين حاولوا إثبات الطريقة التي مات وفقها هتلر ومكان جثته. عجيب -حدثت نفسي- إذا كان هتلر، الشخصية الأبرز في وقته، قد مات قبل أقل من مئة سنة، وسط مجتمعٍ يحرص على توثيق أحداثه، على الأقل المهمة منها، ومع ذلك يصعب معرفة التفاصيل الدقيقة لحادثة موته، فكيف نعتقد نحن بأننا قادرون على معرفة التفاصيل الدقيقة لأحداث حدثت قبل آلاف السنين؟ ثم نبني على هذه الدقة المدعاة عقائدنا المقدسة، ثم نتقاتل بيننا في الدفاع عن هذه العقائد؟
الدراسات الإنسانية ليست علوماً لأنها عاجزة عن تحقيق الدقة العلمية، وهي مغرورة لأنها لا تعترف بهذا العجز، وعجزها وغرورها مكلفين جداً. لدينا الكثير من المختصين بالتاريخ، لكن قليلاً منهم من يصارحنا بمستوى الدقة الذي تتمتع به رؤيتنا لتاريخنا المقدس، خاصَّة وأننا لا ندعي فقط الدقة بتحديد زمان ومكان الحادثة، بل والتفاصيل الدقيقة للحديث الذي دار بين أبطالها، نحن نفعل ذلك دون أن نفحص مستوى الدقة الذي تتمتع به الأدوات التي نستخدمها في معرفة التاريخ، وهو الفحص الذي أجراه دارسو حادثة موت هتلر، فقد شككوا بصدق ودقة رواة الحادثة، مع أن بعضهم أحياء، ونحن لا نفعل مع رواة أحداثنا مع أنهم ماتوا قبل آلاف السنين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

فصائل "بلا أب".. رسائل باحتمال ضرب طهران بعد "الحوثيين"

خسائر سنوية تصل إلى 500 مليار دينار بسبب الاختناقات المرورية في العراق

تقرير دولي: 111 مليون دولار أرباح داعش من تجارة الاستعباد الجنسي

11 عضوًا في مجلس ديالى يقررون إقالة رئيسهم بسبب "الضعف والفشل الإداري"

ما الذي يؤخر إقرار جداول موازنة 2025؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: عندما يغط البرلمان بالنوم !!

العمود الثامن: أحلام الليبرالي الأخير

قناطر: من سقيفة بني ساعدة الى الساحل السوريّ

العمود الثامن: بين مستشار ومستشار

العمود الثامن: محبة عراقية

العمود الثامن: محبة عراقية

 علي حسين أتابع العمود الاسبوعي الذي تكتبه الصحفية والروائية إنعام كجه جي، وكنت ومازلت مغرماً بروايتها الساحرة التي تكشف لنا من خلالها عمق ارتباطها بوطنها ومحبتها التي تتعمق يوما بعد آخر بالعراق برغم...
علي حسين

السياسيون يدركون أن المهاجرين يدعمون الاقتصاد

نوربرتو باريديس ترجمة: عدوية الهلالي تشغل قضية المهاجرين مساحة متزايدة في المناقشات السياسية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، الذي من المتوقع أن يتلقى أكثر من مليون طلب لجوء هذا العام، وهو أعلى رقم منذ...
نوربرتو باريديس

الدروز بين الشرع وإسرائيل

عبد الرحمن الراشد تاريخياً، إيرانُ الخميني تعاونت عسكرياً مع إسرائيلَ، وكذلك فعل عراق صدام. واستقبل شيعةُ لبنانَ قواتِ إسرائيل ونثروا عليهم الرُّز والوردَ، ولجأ مسيحيُّو لحد إليها. إسرائيلُ خبيرةٌ في صراعات المنطقة، واليوم تعرض...
عبد الرحمن الراشد

العراق يستحقُ نظرةً موضوعيةً لمواجهةِ الواقعِ السياسي المضطرب

عصام الياسري انفعالات الرأي العام بسبب ممارسات الساسة المتسلطين وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والنفسي، متراكمة للغاية، وستشتد كلما ضاق أفق الأمل بالمستقبل وتعاظمت التحديات والضغوط الاجتماعية والقوانين السلبية وعندما تبلغ الانفعالات درجة النضج...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram