TOP

جريدة المدى > عام > على هامش ندوة المدى التي أقامها القسم الثقافي..الأدب النسوي: بين منقب مستقصٍ ومخمن مستعصٍ

على هامش ندوة المدى التي أقامها القسم الثقافي..الأدب النسوي: بين منقب مستقصٍ ومخمن مستعصٍ

نشر في: 28 يوليو, 2018: 06:29 م

د. نادية هناوي

احتلت المرأة في مراحل ما قبل الكتابة مركزية هائلة كانت فيها هي العنصر الذي يسيّر الآخر ويوجهه، فهي المعلمة والحكيمة والقائدة التي لا غنى عنها، وهكذا كانت الأنثى في ملحمة جلجامش إلهة مشاركة فاعلة تناصف المذكر الذي استغل فاعليتها وتسامحها فيما بعد ، فاستحوذ على سلطتها وتمركز حتى صار الشر والخير هما اللذان يرسمان مصائر حيوات آلهة وغير آلهة. وظلت الأنثى عبر العصور صيرورة بشرية، بها تتجسد أصالة الوجود وماهية جوهره.
وفي مرحلتنا التاريخية الراهنة صار هذا الذي قدمت له واحداً من موضوعات شتى يعنى الأدب النسوي، بعد أن أصبح مصطلحاً من مصطلحات النقد الثقافي والدراسات الثقافية. وهو ليس إعلاناً دعائياً يتم الترويج له أو سلعة يراد لها التسويق والانتشار في سوق البضائع الاستهلاكية.

وكانت مهيئات ظهور الأدب النسوي وممكنات تبلوره قد تأسست على حاجات فكرية ملحة، انطلقت من طروحات فلسفية متجددة وواعدة، أسهم فيها كبار المفكرين الغربيين والمفكرات الغربيات، فمن انجلز وسيمون دي بوفوار وميشيل فوكو إلى تيري ايغلتن وجوليا كرستيفيا وليندا هيتشون وألين شوالتر وغيرهم.
ومن الطبيعي أن يكون الأدب النسوي اليوم مستقراً من المستقرات المعرفية. والسبب رجاحة مرتكزاته وقوة دعائمه التي مكنته من إثبات وجوده فرعاً كتابياً من فروع الفن الإبداعي، حتى غدا أقوى من أن تحف به المخاتلات وأعلى من أن تطاله الامتهانات وتقدح به المراوغات كتطلع إنساني لا يتعالم ولا يغالب كما لا يوالي ولا يتربص.
ويبدو أن السؤال المعرفي الذي يقوم عليه هذا الأدب هو الذي منحه هذا الاستقرار الاجناسي في عصر ما بعد حداثي انهارت فيه الحواجز وألغيت القيود واضمحلت التابوات.
وهو ما يتناساه للأسف كثيرون عادَوا الأدب النسوي مصطلحاً قبل أن يعرفوا كنهه وصورته، وتعالوا عليه قبل أن يفهموا ماهيته.
ويبدو أن ما يشغل منتقدي هذا الأدب رجالاً ونساء ـ ممن قبلوا بالهيمنة الذكورية ـ هو النسوية، التي هي في نظرهم تحتاج إلى كبح جماح لتطلعاتها والحد من ثورة تمردها، وهكذا تصدوا للنسوية مهشمين ومنتزعين ومقرعين وناقمين، بلا حجة معرفية سوى الخشية من أن تفقدهم النسوية عرش المركزية ليظل الرجل هو حارس المنظومة الثقافية البطريرياكية والوصي عليها.
أقول هذا وأنا بصدد الفئة المناهضة للأدب النسوي التي صرح أصحابها علانية برفضهم هذا الأدب تجنيساً وتسمية، في أثناء النقاشات التي دارت حولها ورشة الأدب النسوي التي أقامتها مؤسسة المدى ونشرت وقائعها جريدة المدى.
ومن الغريب حقاً أن بعض التصورات التي ارتكنت إليها هذه الفئة كانت تنطلق من فكرة التهشيم متعكزة على التابو، ولئن كانت مسألة التابو قد عالجتها أدبيات التحليل النفسي بإزاء نصوص مقدسة وسرديات أسطورية وحكايات شعبية فلن يعود الأدب النسوي إذن إلا مرادفاً للأدب المكشوف، بموضوعات الخلاعة والمجون والإباحية والشبق واللاأخلاقية. وكأن الأدب النسوي أدب تسفيل أو سفالة وخزي وسادية وأمراض نفسية وآيروتيكية مبتذلة.
وكان تمسك هذه الفئة بالرؤية الحداثية حاضراً على طول النقاش عبر المقابلة بين الثنائيات كالنسوية والرجولية والقيمة والموضوع والمضمون والشكل والأنثى والذكر، وما ذلك إلا كنوع من التدارك لنقص منهجي وتعبيراً عن نزوع نفساني نحو الجندر ودونية الجنس وموبقاته.
ولقد أُخذت مسألة الأدب النسوي في الأغلب من محمل جنساني بحساسية نفسانية، لا ترى المرأة إلا موضوعاً للشهوة والغواية ومن ثم انزلقت كثير من الأمثلة التي سيقت خلال النقاش إلى مناح تزدريها ثقافة ما بعد الحداثة وتعدها وضيعة ومقرفة بسبب غوصها في ما هو شهواني جسدي ونسيانها ما هو فكري مجسدن وغنوصي.
وكانت المغالاة في ركوب التنميط والانغلاق في الرأي والانقطاع إلى الحداثة عما بعدها، سبباً في عد فكرة هذا الأدب طفولية وغير شرعية. وفات هؤلاء إنهم برأيهم هذا إنما يسقطون خشيتهم من أن تكون المرأة قد نضجت وتعدت مراحل الوصاية والإتباع.
وحقيق بمن يأتي ليدافع عن قضية ما أو يحذر منها أو يومئ إلى ضعفها أو سخفها، أن يعد العدة بالأدلة المنطقية الدامغة والقطعية ويعاين بروح متيقنة وواثقة كي لا يكون أمام الطرف الآخر خالي الوفاض، مانحا نده فرصة الانقضاض عليه وإبادته.
ولا شك إن التحلي بسمة الانفتاح والتحاور سيجعلنا ندرك صميمياً أن اختلاف الآراء مسلك حضاري ينبغي أن يتحلى به أي امرئ يعد نفسه مثقفاً ولا أقول تنويرياً أو طليعياً لأن من هو طليعي وتنويري هو مثقف لا يحتاج لإثبات ذلك مجاهرة إشهارية أو هوية تعريفية أو شهادة جامعية.
إجمالاً فان خيبة التوقع التي تلبستني قد انقلبت إلى مديات من التطلع والتوقع بأن المستقبل لهذا الأدب لا لإن المدافعين عن أحقية الأدب النسوي وإن كانوا أقل عدداً لكنهم كانوا أقوى حجة وأثقل وزناً من الرافضين لهذا الأدب وإنما لأن المسائل هي بمحصلاتها والمحصلات بنوعيتها وليس بكميتها.
وبسبب ما تقدم وانطلاقاً من إيمان صميم بأحقية النسوية في التعبير عن نفسها فكراً وأدباً، يصبح وجود مركز بحثي للدراسات النسوية أمراً لا مناص منه. وهو ما كنت قد طرحته في أثناء الندوة، وسأُسمي هذا المركز( مركز تيامة للدراسات النسوية العراقية) تيمناً بالآلهة الرافدينية ( تيامة ) أقدم أسطورة أبدعها المخيال الإنساني عن المرأة ودورها في تأنيث الكون وتفسيره وبناءً على تصور وجودي مفاده أن الإنسان أتى إلى هذا العالم كنتاج قوة روحية أنتجتها كائنات أنثوية خفية اقترنت روحها بالمياه التي منها استلهم وجوده، وبهذا تكون تيامة الأمّ الكبرى رمزاً للسيادة الأنثوية ومركزية الأنثى.
وتنطلق فكرة المركز من الحاجة الفكرية الماسة إلى وجود تنظيم ثقافي ـ بحثي ليعبر عن صوت المرأة ويبرز كينونتها المؤنثة وتطويرها، وبما يمنحها حضوراً طليعياً في المجتمع ويحقق لها قدرة على إعادة إنتاج ما كُتب عنها أو ما كتبته هي عن بنات جنسها، في مختلف ميادين الفكر والبحث، وبالشكل الذي يشيع روحاً معرفية جديدة تتماشى مع التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي طرأت على الحياة العامة خلال العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين، في ظل سيادة مرحلة ما بعد الحداثية التي أهم سماتها الانفتاح والاندماج ونبذ الحدود وإزالة الحواجز ، بغية تحقيق حياة إنسانية منفتحة لا هيمنة فيها ولا قطبية كي يعم الوئام والسلام والتكافؤ.
وتنطلق أهمية الاقتراح من أسباب مختلفة توجب علينا إنشاء مثل هذا المركز، أولها ما تتعرض له المرأة عموماً والمرأة الكاتبة تحديداً من ضغوطات الهيمنة الذكورية المتسمة بالاقصاء والإجحاف والمصادرة ومحاولة الإلغاء، وثانيها التحجر الثقافي السائد عند كثير من المثقفين والنقاد والمتخصصين والمتصف بالاطلاق والدمغاطية المحافظة والرؤى الراديكالية التي تقول بعدم أحقية وجود فكر نسوي وأدب نسوي ونقد نسوي وتمثيل بحثي نسوي.
وثالثها الأسئلة الشائكة التي تحتاج الإجابة عنها إلى جهود بحثية تتصف حتماً بالاكاديمية والتخصصية وعادة ما تكون جماعية بسبب ما تتطلبه من تهيئة اقلام باحثين وباحثات مؤمنين بالنسوية وبقضاياها التحررية ومبادئها الطليعية.
ومن بين تلك الاسئلة، ما النسوية ؟ ومن هم/ هن الذين/ اللائي يتصفون/ يتصفن بأنهم/ بأنهن نسويون/ نسويات ؟ هل ترتهن النسوية بتحرر المرأة تحرراً كاملاً لكي تستعيد وجودها الحقيقي؟ وكيف ينبغي التعامل مع المرأة عاملة وربة بيت وكاتبة ؟ كيف يمكن استثمار طاقة الجسد الأنثوي في مراحل العمر من طفولة ومراهقة ونضج وكهولة وشيخوخة ؟ كيف يمكن للمرأة أن تتحصن من مساعي غواياتها، وتستقل في مركزيتها بحيث تمسك العصا من الوسط بقبضتها ؟ وما الذي يمكننا فعله باتجاه التعبير عن النزوع الأنثوي بايجابية وفاعلية شفوياً أو كتابياً؟ هل ستستطيع المرأة في مجتمعنا أن تعبّر بجرأة عن همومها متجاوزة سلطة الابوية ؟ متى سيكون حضورها الثقافي والمجتمعي لا نمطياً متجاوزة اعترافها بالآخر وصياً ؟
ورابع العوامل إن فاعلية المؤنث رهن بفكرة التشارك وليس التابعية، التي بها تتمكن المجتمعات من بناء نفسها ونهوضها من جديد، وخامسها رد الاعتبار للكفاءات النسوية والانتصار لهن والوقوف إلى جانب الطاقات الجديدة الكفوءة ومعاضدتها باتجاه التفوق والتمييز على مختلف الصعد البحثية والميادين المعرفية.
ومن أهداف هذا المقترح:
1) إثبات الحضور النسوي وتوكيد هيبته وسلطته، التي غيّبتها الأبوية استحواذاً وهيمنة، حتى بدت المرأة كأنها صنيعة الرجل.
2) إعلاء صوت المرأة ومركزة سماتها الإبداعية انحيازاً لها وتعزيزًا لمكانتها وقدراتها.
3) إشاعة ثقافة الانفتاح وقلب الصورة النمطية للمرأة بوصفها موضوعا أو تابعاً والتعامل معها بوصفها قيمة فكرية وحضوراً ثقافياً له وزنه على مختلف المستويات الأدبية والنقدية والصحفية والتاريخية والمجتمعية وغيرها.
4) بناء ستراتيجية بحثية ذات أبعاد ثقافية تعلي من شأن المرأة من خلال فعاليات تغاير المعتاد وتزحزح الثابت من التقاليد التي أشاعتها المؤسسة الثقافية الأبوية.
5) التصدي للتحامل الفحولي المعادي للمرأة الذي يريد إخراس الدور النسوي أو تغييبه وسحقه.
6) تشجيع الطاقات النسوية على الإبداع في مجالات كتابية وغير كتابية وتزويدهن بالأدوات الكفيلة بمنحنهن الثقة في مقاومة الهيمنة الأبوية.
7) تحرير البنات في الفئات العمرية المبكرة من الأفكار التي تكبل انطلاقاتهن كفواعل ثقافية وغرس روح الثقة في نفوسهن.
8) أن ينفتح هذا المشروع على مشاريع نسوية عربية مماثلة، ليضم صوت المرأة العراقية إلى أصوات شقيقاتها العربيات كي تتمظهر خصوصيتهن بكفاية، وتتوكد هويتهن بلا نقص ولا إتباع.
وتتوزع الفعاليات والنشاطات على المستوى التطبيقي بين النشاطات الفكرية وتشمل الممارسات البحثية التي تتضمن اعداد دراسات تستقصي ظواهر الفن والأدب والصحافة والمجتمع والسياسة. وكذلك الفعاليات الميدانية التي تقوم على إجراء استبيانات وإعداد تقارير وتهيئة إحصائيات
ويضاف لها النشاطات الترويجية كإقامة ندوات متخصصة تعرف المجتمع بالنسوية ومتعلقاتها الفكرية. وعقد مناظرات وحوارات تؤسس لروح الاندماج والتفاهم واحترام رأي الآخر. وإقامة ورش عمل تهيء أرضية بحثية لإقامة مؤتمر أو ملتقى تتجسر عبره أواصر الانفتاح وتشاع فيه روح التشارك والتعاون، وأخيراً الفعاليات التبادلية ومنها الانفتاح على المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس وجامعات وبمختلف التخصصات.. فضلاً عن الانفتاح على المنظمات والمؤسسات العراقية والعربية ذات العلاقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram