TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: زينة الرسم العراقي

باليت المدى: زينة الرسم العراقي

نشر في: 28 يوليو, 2018: 06:33 م

 ستار كاووش

امتدت يدي نحو التخطيطات الكبيرة واللوحات التي افترشت أرضية الصالة، وبدأتُ أتحسس بأصابعي تقنياتها وخطوطها وطرق معالجة سطوحها. تَطَلَّعتُ إليها على مهل، محاولاً تَتَبُّعُ الخطوط المنسابة بنعومة ودراية، لأنسجم بعدها مع الملامح والوجوه المعبرة التي تحمل الكثير من الغموض والغرابة والخصوصية. هكذا بدت لي أعمال الفنانة زينة مصطفى سليم وأنا أشاهدها هذه المرة كأعمال أصلية بعد أن استهوتني وتتبعتها كثيراً كصور وعلى الانترنت. فأثناء زيارتي لمدينة تورونتو الكندية، كانت واحدة من أجمل الفرص، هي زيارتي لهذه الفنانة في بيتها ومرسمها، للإطَّلاعِ على أعمالها وعالمها الذي بنته وملأته بشخصيات فيها الكثير من روحها وعاطفتها ومظهرها ذاته، حتى بَدَتْ وكأنها واحدة من هذه الشخصيات التي ترسمها محاطة بالمظلات والقبعات والكمانات والعصافير والقلائد والمصابيح المتوهجة والبالونات الملونة وخصلات الشعر المتطايرة مثل أغصان شجرة متسلقة.
حين تَخرجُ اللوحات من أصابع كـأصابع زينة، فهناك إطمئنان للنتائج، بل هناك ثقة بالرسم. فأصابعها التي تتحرك بدراية وخفة وهي تقود المساحات، وتسحب الخطوط الى أماكن مناسبة، تعرف ببساطة، أين ستنتهي هذه الرقشات، وفي أية زاوية ستحط تلك الخطوط، لأنها ترسم بإنثيال وتدفق وهي تتبع خطوطها وتعابير وجوهها، واثقة من النتائج، وتعلم كيف سينتهي بناء اللوحة، وبأي حال سيكون التعبير.
أحرص دائماً أن أقضي وقتي بالقيام بأشياء تحمل قيمة ما، وهذا ما توفر لي بالفعل، وأنا أشاهد أعمال زينة ذات القيمة العالية، والتي لم تحصل على ما يوازي موهبتها الخاصة، بل المذهلة. فهي تملك موهبة الرسم بمعناه العميق، ولديها تقنية وأسلوباً يعكسان شخصية فنية تعيدنا الى اسماء لامعة في تاريخ الفن.
خلال سنواتي الطويلة مع الرسم ومتابعة الفن في المتاحف، كنتُ كمن يتبع طريدة بعيدة المنال، طريدة كانت تبتعد كلما عرفتُ أكثر عن عالم الفن وتَوَغَّلتُ في فضائه الرحب، ومازلت أتبع ذلك الخيط الخفي في غابة الفن، وأنا مأخوذ بسحر المقارنة بين التقنيات والأساليب والفروقات بين المواهب، وهذا ما يدعوني للقول، إن موهبة زينة في الرسم تعلو فوق الكثير من (المواهب) الموجودة الآن في الواجهة، ويمكن أن نضعها بين مَوهِبَتَيْ، الرسامة البولندية تمارا لامبيسكا والرسام النمساوي إيغون شيله، لما تحمله من مهارة وقوة وخصوصية وتأثير.
الأصابع في أعمالها تشير الى روح الشخصيات وتعكس انفعالاتها، وهي تستخدم هذه المفردة بطريقة فيها الكثير من التعبير، حتى بَدَتْ كأنها متحركة، مثلما تفعل ذلك مع العيون الشاخصة العميقة التي تنبثق من وجوه أبطال لوحاتها.
أثناء عملية الرسم، تضع زينة اللون على شكل طبقات خفيفة فوق بعضها، ونتيجة لذلك يظهر نوع من الشفافية التي تغطي السطوح والمساحات المتداخلة، ويسطع التأثير المناسب والحلول التشكيلية التي تبحث عنها، فلا دخل للنوايا الفضفاضة ولا المقاصد المبهمة في أعمالها، لأنها تدرك أن الرسم الحقيقي يعتمد على مانراه من نتائج، ولا يتعكز على نوايا غير محددة المعالم. لذلك فهي تعرف أين تضع قدمها في عالم الرسم، وأين تسير نحو ماتريده بالضبط، بشخصياتها الشاحبة أحياناً، والمتوثبة أحياناً أخرى، شخصيات تنظر في عين المتلقي، تغمرها بعض الفقاعات المتطايرة، والستائر التي يتخللها الضوء وهي تتمايلُ في فضاء اللوحة. هكذا ظَلَّتْ زينة تتبع مغامرتها وهي ترسم ناساً عرفتهم في الحياة أو أشخاصاً زخر خيالها بصخبهم، لتلقيهم في النهاية على سطوح القماشات، فيحولوا الضجيج الى موسيقى ويملؤوا قاعات المعارض بإيقاعات الخطوط والتدرجات اللونية.
لقد ساهم الكثير من الفنانين والفنانات في بناء معبد الفن العراقي، ووضعوا لمساتهم وعواطفهم وأرواحهم على هذا الجدار أو تلك الباحة، كانوا آلهة يمتهنون نغمات اللون وعذوبة الخط وفهم المساحات. والفنانة زينة مصطفى سليم تنتمي بالتأكيد الى هؤلاء، فهي قلادة تزين الفن العراقي... إنها زينة الفن العراقي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram