د. صالح هويديتبدو قصيدة (إشراق)* للشاعر ياسين طه حافظ، في شكلها الظاهري، فقرة واحدة، لكن التمعن في واقع بنية القصيدة وحركة نموها وزوايا تعبير الشاعر المختلفة، عن موضوعه فيها، يكشف لنا عن حقيقة اشتمالها على مقاطع أربعة.
يضم المقطع الأول السطرين الأولين اللذين يمثلان مطلع القصيدة . ويضم المقطع الثاني السطور التالية لهما، بدءاً بالثالث (لم تكن نجمة…الخ) وانتهاء ب "وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات " . أما المقطع الثالث فتمثله السطور التي تبدأ ب (كان مصباح غرفتها واطئاً …الخ)، وتنتهي بالقول (ذهب ساطع واشتعال مدار )، وما تبقى من القصيدة إنما هو المقطع الرابع والأخير فيها. المشهد التشكيلي : يبدو المشهد الأول في القصيدة، أقرب في عناصره وطريقة تقديمه، إلى اللوحة التشكيلية، وهو معطى تؤكده اللمسة التي تجسد المشهد، مجمدة فيه الحركة الزمنية ، فثمة في المشهد هدوء أبدي مرين على عرائش غافية،ومسافات مقيمة على انتظار : "تهدأ الأبدية فوق عرائش غافية وتظل المسافات صامتة بانتظار" المشهد السينمائي : في الوقت الذي يقدم فيه الشاعر المشهد الأول،من لحظة زمان تقع في الحاضر، وتدل عليها الأفعال المضارعة (تهدأ ، تظل)، نراه ينتقل بعد هذا انتقالة مفاجئة إلى أحداث وقعت في الماضي ولحظات تصرمت، وذلك من خلال أسلوب الارتداد(الفلاش باك) : لم تكن نجمة في السماء rn .…الخ وعلى الرغم مما يوحي به مشهد الافتتاح، من سمت رومانتيكي وهدوء وقور، فإن قدراً من الحياد في ملامح الصورة، هو الذي يبدو واضحاً للعين، ممثلا في هيئة الأعراش الغافية أبدا،والمسافات الصامتة المنتظرة دوماً، انتظار ما ستفصح عنه القصيدة في مقاطعها اللاحقة . وإذا كان ما يلاحظ على المقطع الافتتاحي للقصيدة تحقيقه الانطباع الكامل لدى القارئ من واقع إكماله الصورة لفظاً ومعنى ، فإن أول ما يلاحظ على البنية اللفظية للمقطع الثاني ميل الأسلوب فيها إلى الإضمار والحذف،في أخبار الأفعال الماضية الناقصة، التي لا بد من تقديرها بكلمة (حاضرة) أو (ماثلة) أو (حاضر) أو (موجود) وأضرابها لإتمام المعنى : "لم تكن نجمة في السماء كان برد الشتاء ودروب الشتاء كانت الغرف المغلقات وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات" . ولو حاولنا الوقوف على سر هذا التغير، في البنية الأسلوبية للمقطع الثاني، ولجوء الشاعر فيها الى الإيجاز الشديد والحذف ، لوجدناه كامناً في المنطق النفسي للشاعر فالشاعر هنا واقع - كما يبدو من القصيدة - تحت وطأة سيطرة الذكرى على حواسه، وإلحاح الماضي، الذي يبدو أكثر هيمنة وأشد سطوة على ذهنه ، فهو ينفلت عقب مطلع القصيدة القصير بطريقة الارتداد الذهني، إلى أسطر طويلة نسبيا، ليفصح لنا عن جانب من تجربة ذلك الماضي القابع تحت سطح الذاكرة. وما ان يدخل الشاعر في عالم الماضي وذكرياته، حتى ينفلت فيض، لا قبل له بشرح مفرداته وبيان تفاصيله وسرد أحداثه، فالذات لهفى والأنفاس متقطعة، لا تقوى إلا على التلميح والإيماء . من هنا كان الحذف والإيجاز الشديد يتخذ ملامح عين الكاميرا السينمائية التي تقتنص الصور عبر حركة الانفتاح السريع المتتالي لفتحة عدستها، مما يجعل منها صورا سريعة متخاطفة ، تؤكدها الجمل القصيرة المتقطعة، وما يعتورها من حذف وإيجاز شديد. وهي صور تختلف عن صورة الافتتاحية المتمايزة بطول جملتها، وبطء إيقاعها، وامتداد حروف بعض الجمل في مفتتح القصيدة، وما يعمق هذا الامتداد الصوتي لكلمتي (الأبدية) و(المسافات) من إحساس بالبطء .rn وإذا كان ما يميز ملامح صورة الافتتاحية وألوانها، جو الحياد الذي يبدو واضحا في ما توحيه العرائش الغافية والمسافات الصامتة في انتظار، فإن أبرز ما يميز ملامح الصور التي ضمها المقطع الثاني، هو الإيحاء بالأجواء السلبية التي تمثل الطبيعة الخارجية، في هيأتها التي تقف في الضد مما يتمناه المرء فيها. فثمة شتاء بارد ودروب موحشة وسماء ليس فيها نجم واحد، لا شيء سوى غرف مغلقات توحي بالمجهول والغموض وانسداد طريق المرء، أكثر مما توحي بالطمأنينة واليقين ، ثم أخيرا، لا شيء سوى عرائش غافية ، لكنها ليست العرائش التي طالعنا بها مفتتح القصيدة، فقد تغيرت العرائش هذه المرة وتبدل سمتها المحايد لأنها عرائش الأمس (الذكرى)، لا عرائش الحاضر التي بدت في مفتتح القصيدة ، بعد أن أضيفت إليها ملامح انتقلت بمعطياتها من جو الحياد الى جو السلب، الممثل في الظلمات التي اكتنفتها والثلوج التي جللتها. وفي الظلمة عتمة وضياع وعمى وانسداد
توظيف المعطى التشكيلي في النص الشعري
نشر في: 21 إبريل, 2010: 04:39 م