متابعة المدى
عدسة/ محمود رؤوف
عشقت حريتها، وهوايتها، وحياتها التي كانت ملغومة بالمخاطر، إنها حياة أولئك الذين يرفضون الاستكانة خلف الصمت، أولئك الذين يخلقون الجمال، ويرفضون الوجع والموت والنفاق، أولئك الذين يدركون أن وجودهم في هذه الحياة ما هو إلا دور منحهم إياه الله ليكملوه بإيصال رسالتهم للعالم بأكمله، فخرية عبد الكريم، أو "زينب" تلك السيدة التي دخلت الفن العراقي متحدية التقاليد والأعراف الأسرية والاجتماعية، التي واجهت المجتمع بشكل آخر من خلال نضالها السياسي والمعرفي والثقافي، ولدت في وطن حملته عمق روحها وأخذته إلى منفاها، إلا أنها لم تنفك عن دعم أبنائه خاصة في مجال الفن والمسرح والجمال.
الفنانة زينب وبعد 20 عاماً على رحيلها يُحتفى بمنجزها في بيت المدى في شارع المتنبي خلال جلسة أقيمت صباح يوم الجمعة الفائت وذلك للحديث عن سيرتها التي يجب أن تُعرض للجيل الجديد، لتكون قدوة لهم كي يعلم من لم يعلم بأن هُنالك امرأة عظيمة تحدت كل شيء حتى صارت "فنانة الشعب" :
فرقة الصداقة في المنفى
دخلت زينب مجال الفن بطرفة، وذلك بعد أن شكا الفنان يوسف العاني واقع الفن العراقي وخلوّه من شخصية نسوية تقدم أعمالاً مشتركة مع أبطال رجال، على أن تكون هذه الشخصية صقيلة وممميزة وتمتلك الكثير من القدرات، وبعد أن قرأت زينب تفاصيل ما كُتب في الصحيفة اتصلت، وبدأت بمراسلته سراً لتبين رغبتها بالانضمام الى العمل، محاولة تجنب كل المضايقات الاجتماعية والاسرية والامنية، ويذكر مقدم الجلسة الناقد الاكاديمي والمسرحي د. سعد عزيز عبد الصاحب قائلا " بينت زينب رغبتها من خلال مراسلتها العاني بالانضمام الى العمل الذي كان في وقتها فيلم "سعيد افندي" وذهب العاني بهمة عالية ليفاتح عائلتها بضرورة ذلك واستطاع إقناعهم بطريقته الرائعة وكان ذلك عام 1957 وبعدها توالت الاعمال المسرحية مطردة بعد انضمامها لمسرح الفن الحديث في ذات السنة."
نستذكر الفنانة الرائدة فخرية عبد الكريم أو زينب التي استطاعت أن تؤسس حالة نضالية في المسرح العراقي لم يسبق لها مثيل يشير عبد الصاحب " أدري ما الذي يجمع فرقة المسرح الفني الحديث العراقية بفرقة البرلينا أنسامبر الألمانية والفنانة الألمانية الأقدم والأشهر في الحركة الفنية الالمانية فرلينا فايكر بفنانتنا زينب، التي غادرتنا في مهجرها السويدي بعيد اً عن خشبات المسرح العراقية بعد ان قدمت أجمل الأعمال المسرحية ،ومنها أنا أمك يا شاكر، ودور سليمة الخبازة في النخلة والجيران، كان عنوان الأم يتصل برعايتها للفنانين الشباب بعد أن هاجرت للمنافي في اليمن وبريطانيا ودمشق والسويد."
ولا يمكن فصل نبوغها الفني عن حياتها النضالية والسياسية، حيث فصلت من عملها ولم تتم إعادتها إلا بعد ثورة 1958، وفي عام 1963 اضطرت الى الاختفاء حتى نهاية 1964، وأيضا فصلت من عملها في هذه المرحلة ولم تعد حتى أنها منعت من التمثيل ومنعت من دخول الإذاعة والتلفزيون فاتخذت المهجرمكاناً لها وأسست فرقة الصداقة في منفاها وقدمت العديد من الأعمال.
أينما تحلّ تضيء
الفنانة زينب لاتقل قيمة عن الممثلات العربيات أمثال منى واصف وسميحة أيوب ونضال الأشقر . يذكر المخرج المسرحي والأكاديمي د. عقيل مهدي يوسف " أنها تمتلك روح ووعي ووجدان يوسف العاني، ذلك أن كليهما مكمل للآخر وهنالك نوع من الوحدة الحقيقية التي جمعتهما، كما أن ضمير المعلم الذي تمتلكه زينب جعلها تظهر بطريقة أخرى تماما في مجال الفن."
هي امرأة عملت بحص وأمانة، يجدها مهدي " أنها مشروع ثقافي وتنويري وجمالي ، حيث أعطت زينب للفيلم العراقي نكهة في عمل "سعيد أفندي" من خلال متابعتنا لها سنفهم الفن الحقيقي ."
أما عن تعاملها التلقائي والعفوي مع طلبتها يذكر د. عقيل مهدي " في إحدى الجلسات جاءت زينب واخترقت المكان حيث كنا طلاباً وجلست معنا ليتضح من ذلك أنها كانت تهتم بالجيل الجديد وكان الفرق بيننا آنذاك 20 عاماً كنت أشعر أنها من عمرنا." توالت اللقاءات بين زينب ومهدي خاصة بعد أن ذهب الأخير إلى إيطاليا للدراسة ووجدها فلم يصدق نفسه، رحبت بحضوره، فيستذكر مهدي الموقف قائلا " هذه المرأة التي ذهبت الى مكانات مختلفة أينما تذهب كانت تضيء حتى موتها في السويد ."
قادرة على الاحتجاج
السيدة زينب قامة كبيرة ومميزة ولافتة للانظار، فمن لا يصغي لها يُجبر على الإصغاء، إنها مثقفة غنية كما وصفتها الفنانة د.عواطف نعيم " إنها ممتلئة ما جعلها واثقة الخطى والقول والحضور، حين تعرفت عليها في مسرح الفن الحديث التقيتها في مسرحية " الخان " وقد مثلت أنا دوراً صغيراً وكانت هي إحدى الشخصيات الرئيسة .وأذكر أنها قبل دخولها خشبة المسرح تعتزل على جانب ولا تتحدث لتعيش الدور مع ذاتها، بالنتيجة كان الجمهور يصفق لها كل ليلة وفي كل ليلة تنتفض بعد الخروج لتطلب مني أن أعطيها ماء تشرب لترتاح .كانت تعاني كثيرا لأن العمل يستمر لأكثر من شهرين وهي في حالة إرهاص نفسي عنيف لتقديم دور فيه مصداقية وكان هذا بالنسبة لي درساً بليغاً في كيفية أن يكون الأداء مؤثراً."
عن عملها مع زينب وكيف كانت تتعلم وتتعامل معها تذكر عواطف نعيم " زينب في عملنا معها كنا نتعلم كثيراً، أذكر أنني تمردت في مسرح الفن الحديث في أحد الادوار وغضب عليّ سامي عبد الحميد وكنت صغيرة لأقول له إن الدور لايتناسب مع طاقتي وحين حضرت هي قالت كيف لايتناسب معك وقد قلتِ إننا يجب أن نفرح بنجاح الآخرين ؟لم تكن حياتها سهلة لأنّ لديها صعوبات بحكم طبيعة شخصيتها المواجهة والقيادية والقادرة على الاحتجاج وكانت تتعرض للظلم أحيانا."
اخترقت الحُجب
عن امرأة استثنائية يدور الحديث هكذا وصفها الدكتور زهير البياتي قائلا " فخرية عبد الكريم نتحدث عن امرأة استثنائية بكل معنى الكلمة اخترقت الحجب النفسية والاجتماعية والسياسية في وقتها، وحجب السياسة هو الحجاب الأخير الذي شكل بالنسبة لها أعقد القضايا التي عانتها زينب واستطاعت أن تصل إلى الذرى وأماكن مرموقة رغم ما واجهها من صعوبات."
كانت تعيش همّ الوطن والارض ونهر دجلة والفرات وهمّ الفن والإبداع .امتزج هذان الهمّان في همّ واحد وفي بودقة برزت في فيلم سعيد أفندي وفي بعض مسرحياتها ونتيجة لقوة أدائها وعملها مع شخصيات مهمة مثل إبراهيم جلال ويوسف العاني قدمت العديد من المسرحيات المهمة ووقفت أمام عمالقة من الفنانين وعملت مع فنانات مبدعات .زينب عبد الكريم احتفت بها مؤسسة المدى اعتزازاً بها ولشخصيتها الرائعة، ومن هنا أكد البياتي " ضرورة إقامة فعالية معيّنة ترفع من قيمتها في وقت نسي أو لم يعرف الجيل الجديد شخصيتها ."
رسالة
خلال الجلسة أرسل الباحث الاقتصادي عبد العظيم الخفاجي رسالة، وقد قرأها د. سعد عزيز عبد الصاحب خلال الجلسة وتضمنت الرسالة " إنّ واحداً من مؤشرات الانحدار المجتمعي بعد تغيير 2003 هو غياب الاحتفاء الشعبي بالقامات العراقية التي أثرت بشكل واضح وكبير بالفن العراقي الهادف ومن بينهم شخصية السيدة زينب، الشخصية المسرحية والفنية التي توضع في موقع مقدّس في بناء مجتمع راقٍ وخالٍ من الفوارق والتعصّب والعنصرية."