ستار كاووش
في أحد تلك الأيام البعيدة، وبينما كنت أضع قدمي على عتبة قاعة الرواق في بغداد، محاولاً الدخول لمشاهدة أحد المعارض، إنفتح الباب الزجاجي للقاعة وظهر هاشم حنون الذي كان خارجاً بذات اللحظة، تقابلنا وسط الباب، فنظر اليَّ هاشمٌ وبادربي بمحبة (أنت كاووش، أليس كذلك) فقلت له ضاحكاً (وانت هاشم حنون). يومها، كنت أظن بأن خطواتي كانت تسحبني الى قاعة الرواق بينما هي في الحقيقة كانت تسعى بي لصداقة فنان احببته وأحببت اعماله دائماً. سبقني هاشم بتجربته الفنية، حيث كانت لوحته (الشهيد) يتردد صداها بين شباب الفنانين، تلك اللوحة التي رسمها في بداياته، لتتحول الى إحدى ايقونات الفن العراقي المعاصر. معارض ومناسبات كثيرة جمعتنا في اروقتها، حتى لقائنا الأخير في عمان سنة ١٩٩٤، حيث كُنّا نبحث عن صدى لأعمالنا ومواهبنا التي حملناها معنا خارج البلاد، حتى أقمنا في تلك السنة، معرضاً مشتركاً في قاعة الفينيق، معرض جمعنا بفنانَينِ آخرين هما زياد حيدر وعبد الملك عاشور. لأسافر بعدها مباشرة في مغامرة جديدة نحو مدينة كييف، ويختار هاشم بعد ذلك كندا البعيدة كمكان يحتضن ابداعه.
الآن يعود هاشم الى عمان ليقيم معرضه الشخصي (مدن الحنين) في قاعة الاندى، عمان التي عاد اليها بضع مرات، ليؤثث غربة روحة ويدفيء لوحاته بعطر ذكرياتها وحرارة ضوئها. هذه المدينة التي كانت ملاذاً للكثير من فناني العراق ومبدعيه.
مهما بَدَتْ أعمال هاشم حنون تجريدية فهي بروحها وايماءاتها وتكويناتها تحمل اشارات بَيِّنَة لتشخيص قد يغيب هنا ويظهر هناك، لكنه واضح الملامح، تشخيص ذائب بين طيات التجريد، حيث الشخصيات تستلقي وسط عذوبة البقع التي تتركها الفرشاة، وتنام وسط نغمات اللون وهارمونيته. فهؤلاء الذين يرسمهم يتماهون في الصبغة نفسها، حتى انك لا تفرِّق بين الشخص المنتشي على القماشة وبين لطخة الفرشاة التي بجانبه، وهذا هو الخليط السحري بين التجريد والتشخيص، بل هذه هي عذوبة الرسم التي نراها مهيمنة على أعمال هاشم. أشخاص مرحين يطيرون في فضاء اللوحة، يتخذون أشكال أطفالاً يلعبون أم موسيقيون يعزفون الجالغي، عشاقاً ام نساء ملفعات باللون، ليُحَوِّلُهم من خلال تقنيته، الى حديقة زرقاء، يُغَنّي فيها أزرق الكوبالت، ويرقص الأخضر المشرق، وتسترخي بقية الألوان منسجمة مع الكورال. وفي النهاية يحتفل الرسام ويبتهج بالنتائج.
تكوين العمل عند هاشم حنون، مفتوح على الجهات الأربع في الغالب، دوائر وكتل ومساحات تتداخل مع بعضها، في مناخات احتفالية تُبهِجُ العين وتُوقِدُ المخيلة. إشكال تموج في فضاءات تشبه الحلم، لَوَّنها بيدٍ ماهرة وعين مدربة وخيال لا تسعه حدود، يضاف الى ذلك روح تواقة للرسم، ونتائج باهرة. فماذا نريد اكثر، من الرسم؟
يرسم هاشم اعماله منسجماً مع تاريخ الرسم الجميل الذي ينبعث عطره من اعمال شاغال وبول كلي ونيكولاي دي ستايل ومارك روثكو وغيرهم من الكبار، ليخرج من بينهم بروح عراقية، ولوحات طَبَعَها بطابعه الخاص، وصاغها بخيط من الذهب ربط على جانبيه عمق بغداد وروح البصرة.
في معرضه الجديد، وهو يرسم عمان وبعض المدن الأخرى التي أحبها، ينهمر اللون على الشوارع واليافطات، وتنتصب الاشجار وهي تحيط بالسيارات والبنايات والمارة، في فضاء حلمي جعل الاماكن يوتوبيا وَحَوَّلَ الساحات والحدائق والزوايا الصغيرة الى حكايات مليئة بالعذوبة.
يعود هاشم، للحنين الى الرسم، والبقاء في دائرة اللون التي صنعها بعناية وصبر وتأنّي، علـى مدى سنوات طويلة، تقود ذلك موهبة فذة وأصابع مسترخية، تستجيب لها الفرشاة طمعاً بأعمال أقل ما يقال عنها، انها خيط الحرير الذي طرز جانباً مهماً من سجادة الفن العراقي. تحية لهاشم في معرضه الجديد ومحبة لحنينه الى الرسم، ذلك الحنين الذي لم ولن يتوقف أبداً.