عبدالله حبه – موسكو
يبقى موضوع الحروب وأهوالها من أكثر المواضيع إثارة للضمير الإنساني ،وتسعى السلطات التي تتحمل المسؤولية عن إثارة الحروب الى فرض ستار من النسيان على آثارها وعدد ضحاياها. فلا يعرف حتى الآن عدد ضحايا الحرب الكورية أوالحرب الفيتنامية ناهيك الحديث عن الحربين العالميتين ، وثمة أرقام تقريبية فقط. وفي العقود الأخيرة من السنين شهد الشرق الأوسط الحرب العراقية – الايرانية ثم الإحتلال الأميركي للعراق والحروب في ليبيا وسوريا واليمن . ولاتسمح السلطات في الدول الغربية بإجراء أية تحقيقات وإعداد الكشوف الإحصائية عما خلفته هذه الحروب من قتل ودمار ،والتي يتحمل العالم الغربي " المتحضر" جزءاً كبيراً من المسؤولية عن حدوثها خدمة لمصالحه الأنانية ، سواء عبر هيئات الأمم المتحدة أم عبر المنظمات الإنسانية .ولكن المؤرخين والباحثين يتحدثون اليوم عن عشرات الملايين من الضحايا في إيران وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن. إن ضمير المثقفين الذين تتأصل في نفوسهم مبادئ الحضارة يقفون دوماً في صف الداعين الى وضع حد للغرائز الجامحة والطبائع المنحرفة لدعاة الحرب أينما كانوا. إن موضوع القسوة ورفض الحرب شغل إهتمام الفنانين في مختلف العصور. فقد صوّر الفنانون في مختلف العصور بعض مشاهد الحروب ومنها لوحات الفنان الإسباني جويا ولوحة بيكاسو الشهيرة "غورنيكا"، كما نشير في عراقنا الى لوحات محمود صبري ولوحة "صبرا وشاتيلا" لضياء العزاوي وغيرهم.. فمثل هذه الحوادث والخطوب تعبث لقسوتها بقلوبهم مما يجعلهم يصبون جميع معاناتهم في ما ترسمه فرشاتهم على اللوحة حتى بشكل رموز وألغاز يبرز فيها المقاتل بشكل مسخ أو وحش غريب الهيئة أحيانا إو ضحية لحرب لا يكسب منها أي شئ.
ربما لايوجد فنان آخر كشف مايرافق الحروب من قسوة وعنف وسفك دماء كالرسام الروسي فاسلي فيريشاغين (1842 - 1904) الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولقى مصرعه في تدمير الطراد الذي كان فيه في أيام الحرب الروسية – اليابانية . ويقام الآن معرض شامل لأعماله في كاليري تريتياكوف بموسكو .
لقد وصف معاصرو فيريشاغين هذا الفنان بأنه " متمرد " و" صاحب إتجاه جديد في الفن". بينما وصفه البعض بأنه " ليف تولستوي الفن التشكيلي" لموقفه من الحروب والعنف بكافة أشكاله. فهو صور نتائج الحرب في لوحات تتمثل في أكوام الجماجم أو جثث القتلى المسلوبة ومعاناة الجرحى والمدن المهدمة. وتضمن حتى الأرشيف الشخصي للفنان صورة فوتوغرافية تظهر الثوار الهنود المربوطين الى فوهات المدافع البريطانية لإعدامهم بطلقات المدفعية وبهذه الصورة الوحشية كان المستعمرون الإنجليز أصحاب " الديمقراطية " المزعومة يقمعون الحركات الثورية في الهند.
وفعلاً كان فيريشاغين فناناً ذا موهبة متألقة لا مثيل لها بين فناني عصره وشغل مكانة بارزة في تاريخ الفن التشكيلي الروسي. علما بأنه لم ينتم أبدا الى أية جماعة أو مدرسة أو حلقة فنية . كما إحتقر الألقاب الرسمية وحتى رفض لقب بروفيسور في الأكاديمية الإمبراطورية للفنون التشيكيلية. وقال مرة " نحن نعلم جميعا ونفكر و نرغب في شئ ما، لكن تنقصنا الشجاعة وأحياناً الشرف لعمل ما نرغب فيه ". ومقصده إلا يكون الفنان من الذين يطرحون نفوسهم للبيع بثمن بخس في المزاد. وتمتع الفنان بشعور مرهف في صيانة كرامته الذاتية ،وكان يخشى أكثر ما يخشى أن يفقد إستقلاليته ويُرغم " على سد بلعومه بالنقود" حسب تعبيره.ولهذا كان يرفض جميع طلبات الأثرياء لإنجاز لوحات شخصية من أجل كسب المال.
والمعرض الشامل الذي أقيم في عدة صالات من الكاليري يضم لوحات ورسوماً تخطيطية أنجزها الفنان حيثما حل ونزل : في بطرسبورغ وموسكو وباريس وميونيخ والهند وتركستان وفلسطين والصين واليابان. وبإعتباره ضابطاً في الجيش الروسي فقد كانت مجموعة كبيرة من لوحاته تتعلق بالمعارك التي خاضها الجيش الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأقصى ، حيث شاهد شخصيا المعارك وسجل آثارها . وكانت تحدوه الرغبة في أن ينقل الى المجتمع الأوضاع الحقيقية للجنود وآلامهم، وليس بطولة الجندي في القتال ، كما شاهد الاحداث شخصيا بصفته أحد ضباط هيئة الأركان. وتظهر لوحته " الجندي الجريح" مدى آلام الجريح ورغبته في الإبتعاد عن ساحة القتال بأسرع ما يمكن. بينما تظهر لوحته "بعد المعركة . مركز الإسعاف" حيث يظهر الجرحى الروس والأتراك وتآخيهم بعد إنتهاء المعركة إذ يتلقون العلاج على حد سواء في خيام الإسعاف الروسية. وبالرغم من أن الفنان قد نشأ في أسرة أرستقراطية فقد كان يتجنب الإحتفالات الفخمة وتضييع الوقت في لعب القمار وشرب الخمر مثل بقية الضباط. ولهذا عامله زملاؤه بنفور وإنتقدوا لوحاته التي تفضح الحرب وتظهر حياة الشعوب في البلدان الأخرى . وإتهموه حتى بفقدان " الروح الوطنية".
وتظهر صوره للشخصيات من أبناء شعوب آسيا الوسطى إهتمام الفنان بإظهار كل السمات المميزة لأبنائها مثل باعة الإفيون والصياد وبيع صبي في سوق النخاسة والدراويش في طشقند وموكب التطبير في عاشوراء في مدينة شوشا وموكب باعة الملح في التبت. كما أبدى الفنان إهتماما بالطبيعة في البلدان التي زارها .
لقد أقام فيريشاغين أول معرض للوحاته الضخمة في لندن عام 1873. وأعقبها بإقامة سلسلة معارض في المدن الروسية وعواصم بلدان أوروبا الغربية وأميركا.وأثارت لوحاته في كل مكان إهتمام النقاد لأنها ذات مواضيع غريبة عن الفن التشكيلي الروسي.وجذب على الأخص إهتمام تريتياكوف أحد أكبر هواة إقتناء النفائس الفنية في عصره الذي إشترى أكثر من 200 لوحة و500 رسم تخطيطي من أعمال فيريشاغين من أجل ضمها الى متحفه للصور.وتزين الآن صالات العديد من المتاحف الروسية .