ياسين طه حافظ
مررنا بالكثير من الآراء في الكلام والدعوات المسرفة في أهمية الواقعية، نسيجاً ومعنى، للفن والكتابة. والحقيقة تلك هي الواقعية ، المرئية، التي أرادوا كشفها ليتم إصلاحها أو التعاطف معها، ذلك التعاطف الذي يؤدي الى تغيير الواقع وإصلاحه.
لكن هذا الإسراف وصل في بعض الكتابات والرسوم الى افتقاد العمق ولا ضرورة الكشف عما وراء المرئي والمحسوس، مما شكل خسارة لجوهر الفن ووصم المكتوب والمرسوم بالآنية العابرة. النزوع الفني المطلوب لم يفت بعضاً من الواقعيين وحظي بانتباهات ووعي لأهمية ذلك ووجدوا لهم صلةً بالرمزيين والتجريدين. وسواهم من دعاة المدارس الحديثة. يمكن القول اليوم بأننا انتهينا من معايب الواقعية واستجد لنا فهم جديد أفضل بكثير مما كان وأهم. ومن جملة ما تخلصت الواقعية منه الفوتوغرافية والاحصائية والتوظيف البروبوجندي، لنصل الى مايسمى بـ" الواقعية الذكية او واقعية الفن الإبداعي ذات القدرات الايحائية .والواقعية الجديدة تكشف عن البعد الآخر وتوسع في الدلالة ولا تنحصر بوحدانيتها. أما الواقعية الجديدة التي تلت هذه المرحلة فصرنا نرى فيها السطح والعمق الذي وراءه مما يرسم قربى الى الصورة المبتدعة والمتخيلة. ففيه مشاركة في كشف العمق وتجاوز المنظور. وهنا اقتربنا الى عالم باشلار وتصوراته، هنا لا يكتفي الوعي بإدراك العالم، بل يعيد ابتداعه ويحوله من مطابقة للواقع الى صورة مبتدعة جديدة له،
فالصور عند باشلار تجمع بين الذات والموضوع، بين الرائي والمرئي فلا تضحي بالرائي من أجل المرئي كما تفعل الوضعية ولا بالمرئي من أجل الرائي كما تفعل المثالية. بهذا يستطيع الإنسان العيش في عالم واحد قادر على التعامل معه بدلاً من أن يحيا في عالمين. ولعل أفضل مَنْ أوضحَ وقرَّب أفكار باشلار لنا من الدارسين، فضلاً عن المترجمين، هي د. غادة الإمام في دراستها الثرية والمهمة " جماليات الصورة- باشلار " الصادر عن دار التنوير ومنه أفكارنا الأساسية في الموضوع.
أهمية هذه النتيجة اننا امتلكنا العالم وما عاد واحدنا إنساناً عادياً يفتقد البعد الآخر للأشياء الظاهرة، فلا يخطر له عالم آخر الا ما تنقله لنا الكتب المقدسة والأساطير من عوالم وإن كانت هذه في نظرنا مرحلة متقدمة لما سنصل إليه... في هذا أيضاً إثراء للحس والمتعة المضاعفة بالحياة والأشياء وفيه غنى فكري وحياة أوسع مدى وأبعد. وهو هذا ما يستحقه إنسان العصر ضمن رحابه الثقافية والوعي الحضاري الجديد، ولكي يغتني بما لم يُرَ من قبل وليكتشف ما وراء حراكنا المادي السريع فلا تستهلك مرئياته ومشاعره. الفنون والآداب تكشف لـ ذلك بصورها المبتدعه الجديدة وبما تصوره رسماً وكتابه من تلك العوالم اللامرئية وراء سطح المظاهر التي الفناها. الحياة فيها من اللامرئيات أكثر من المرئيات إذ لكل شيء مرئي أكثر من حال لا مرئي، تتعدد صوره وتتسع عوالمه باتساع ثقافة الإنسان ووعيه.
نحن نعرف إن اللغة تتجه الى معنى واحد أو الى شيء واحد من الوجود وهي تدخله في ثباتها ذلك الذي تعنيه الكلمات. وهنا تختلف لغة الأدب الابداعي ولغة الشعر على التحديد. هذه تختلف عن لغة الخطاب. الصورة ترينا أكثر من شيء وراء المرئي وحسب الوعي واتساع الثقافة. صحيح ان اللغة هي مسكن الوجود كما يقول جدامير، لا نها تتجه الى الأشياء وتدخلها في صوتياتها المرسومة. لكننا فكرياً وفنياً نتجاوز الموجود الى المخفي وراءه أو الى تعدد معانية ورؤاه التي يحجبها الظاهر المادي وأُلفتنا لها.
" كوهن" في " بنيه " اللغة الشعرية " يعتبر الاستعارية هي لغة الشعر. والسبب في رأينا، انها تمكننا من تجاوز المعتاد المتاح الى حال جديد آخر، وهي هذه مهمة الشعر والفنون: تجديد العالم وإغناء الانسان بكل مكنونات وجوده، المادية وغير المادية مما تتصوره وما نستدل عليه وترينا اللغة الشعرية، هذه كأنها تمنح الاشياء الجامدة والمعتمة شفافية سحرية لنرى..
وربما هو هذا وراء مقولة العالم النفساني " يونج" : ان الصورة الآنموذجية تكون قابعة في اللاوعي ، فتأتي العملية الابداعية لتكشف عنها ( تجليات الصورة/ جاستون باشلار – غادة الامام).
أهمية هذا الكلام كلام يونج ، هو إننا في الفن لا نرى عالماً خرافياً او أسطورياً غريباً عنا، ولكنه كامن في الأعماق الفطرية، هومن مدخراتنا التي لا نعرفها والدهشة تأتي من رؤيتنا والتقائنا بها ! هو هذا الإنسان الذي انطوى فيه العالم الأكبر.. هنا تكون هذه الصور الكامنة فاعلة محركة لجلب الصور الصور الانموذجية الكامنة وليست مجرد رموز في اللاوعي.
اهمية هذا الكشف الفلسلفي والنفساني أهمية عظيمة للفنون ومنها فن الشعر، الشعر فناً، لا النظم. هو يظهر مدى غنى الإنسان بما يملك ويوقف سطوة التعامل مع العناصر الطبيعية تعاملاً فوقياً – نفعياً لايجعلها تسطع بما وراءها ولا هي قادرة على أن تنفتح لنا فنراى ما وراءها ." ان الرأي العام يفكر سيئاً، إنه لا يفكر، إنه يترجم الحاجات الى معارف. وهو إذ يشير الى الأشياء بجدواها، انما يحظر على نفسه حقيقة الحياة الابعد وما وراء الأشياء بالإحصاء وجمع المعلومات عنها، لا بالتآلف معها والمشاركة في عالمها. وقد عبر عن ذلك بقوله: حقيقة القلب هي حقيقة العالم، قد فأشار هنا الى قيمة الفرد العظيمة وعظمة حقيقة الانسان، فهذا الخيالي – الشعري الذي ينفصل بنا عن الواقع هو يعود بنا الى الواقع "الآخر" أو الباطني لواقعنا. وقول بنجامين فوند يصلح لأن يكون خاتمة جيدة ودقيقة لما نريد قوله:
" الموضوع الشعري ليس واقعياً ولكنه جيد التوصيل للواقعي" ومعنى هذا إن الواقعي هو المتخيل من الواقعي! أرى في هذه الآراء انتصاراً لاثنين: الشعر وديكارت!