ناجح المعموري
تثير الرحلة كنظام ثقافي وديني في الأساطير والملاحم عدداً من الأسئلة الجوهرية المرتبطة بتعدد الأفعال فيها وتنوع الرموز والعلاقات التي تستدعي قراءة لها من أجل التوصل إلى معنى الرحلة ووظائفها . ولكل منها دلالة وظيفية مختلفة عن غيرها أو متجاورة مع عدد من عناصر سابقة . وتعدد الأفعال في كل رحلة هو الذي وضعها في سيرورة صراعية / جدلية كما تضمن البحث ذلك واعتقد بان الانتباه لهذا أمر جوهري ومهم وسأحاول في هذا الرأي الموجز تقديم ملاحظات عامة حول هذا النظام من دون الدخول وملاحقة أفعالها ورموزها وعلاقتها .
إنها تنطوي على أفعال صراعية من أجل البقاء وتحقق تطورات وحصول متاعب ، كي يتأهل عنها كائن / كارزمة حسب تعبير بوبر ، هذا الكائن الجديد / المختلف كان عليه سابقاً ، تشكل بعناصر جديدة لم تكن موجودة من قبل ومنهما تجاوره مع الإلهي ودخوله في صراع معه ، بمعنى التقدم نحو الأمام دائما من أجل اقتراح انطولوجيا مستقبلية ،أي البقاء منفتحاً على الآتي / القادم والخضوع لما هو غير ماضي ، أي هذه الانطولوجيا ، هي مستقبل دائماً لا تتحول إلى زمن ماضٍ ، والتحول إلى أسطورة وأنموذج أولي / بدئي يحكم علينا قبولاً له واستحضاراً . تنطوي الرحلة على وظائف عديدة ومتنوعة ، رحلة الحكيم آدابا نحو الإله أنوفي السماء ، تمثل استجابة لاستدعائه مع أمل الحصول على الخلود وتجديد الزمن وولادة كون جديد ، سيكون فيه آدابا طرفا ًمتمركزاً ،لكن ذلك لم يتحقق ، ورحلة استعادة الحياة وصعود الانبعاث في أسطورة ايزيس إلى مدينة جبيل ، وأيضا رحلة الإلهة أنانا / عشتار إلى أريدو وسرقتها للنواميس الإلهية وملاحقتها من قبل ننشوبور حارس الإله أنكي وكذلك رحلة برومثيوس من الاولمب إلى الأرض ورحلة هرقل لتحرير من قيوده ، ولعل أهم الرحلات غير المنتبه لها ، رحلة أنليل نحو العالم الأسفل عقوبة لاغتصاب الإلهة ننليل ورحلة شوكاليتودا نحو السماء .
اعتنت الباحثة زينة الشبيبي في بحثها " جدلية الرحلة وتناصاتها في الفن المسرحي"، بأكثر الرحلات تمركزاً وذيوعاً وتوصلت إلى آراء مهمة في هذا النسق المستمر دائماً على الرغم من حصول تغيرات جوهرية في الواقع والدين . حيث ظل الكائن البشري والإلهي ، الدنيوي والمقدس حاضراً كطرف مركزي في الجدل الذي عرفته الرحلات في زمن لم يكن كالزمن الذي نعيش ، بل هو زمان البدء ، نستعيده الآن لحظة ، استحضارنا للأسطورة أو الملحمة . إنه البطل الممتحن الذي أشارت له الباحثة ، بطل داخل وخارج المصاعب والأهوال ومتى ما نجح تحوّل من إنسان شجاع إلى بطل أسطوري ، بمعنى خسرت لغة التاريخ ضبطها وتحوّلت إلى لغة فيها سحريات / استعارات / رموز / طقوس .هو الفرق بين التاريخي / جلجامش والأسطوري لان بطلاً مثل جلجامش وهرقل شخصان تاريخيان ، تراجع فيهما التاريخ وتمركزت الأسطورة / الملحمة وتراجعت سردياتها التاريخية ، وكثيراً ما انطمرت سرديات التاريخ ، لتفسح مجالاً للأسطورة بوصفها أنموذجاً أولياً وينطوي هذا الحضور على استعادة مستمرة وحتى الأبد ، مع ولادة الزمن البدئي من جديد في حاضرنا . هذا الارتباط المصيري بين الآن / الحاضر والانطولوجيا المستقبلية يمثل نوعاً من تكرر خلق البطل ، حيث تتجوهر البطولة في الشخص كقيمة وعنصر لن يكون إلا لمن استحقه وتجاوز عبورات صعبة ومعقدة له .
رحلة جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز منحت الملك صفة البطل وأهلته ليكون متعالياً في أوروك وعلى الإلهة عشتار أيضاً التي حاولت معاقبته ولم تنجح . حاز الملك على عناصر جديدة ، إنه الازهى بين الأبطال والأمجد ، كذلك لم يكتفِ بصفته بطلاً ولاهوتاً ، بل تحوّل إلى الأمجد بين الأبطال وهو زين كل الرجال ، كل هذا من نتائج رحلته إلى غابة الأرز التي كانت لها متغيرات على النص وتحولاته ولولا الرحلة الأولى والثانية لما تعمق نص الملحمة يتمظهراته الجدلية . وعكست التحولات بان الرحلة عتبة منظمة للحاضر ومستدعية للمستقبل من خلال انسجامات كاملة ورضا لما يحصل ولا يستطيع البطل التحفظ على ما هو متحقق لأنه غير قادر على ذلك ، لأن المتحقق فعل إلهي مقدس / إلزامي ولذا عاتب الإله شمش انكيدو لحظة لعنه للبغي ويفتح هذا مجالا لقراءة أعمق لنص الرحلة المختلفة وظائفيا وبنائيا عن السفرة .
تضفي الرحلة صفة البطولة على الشخص لحظة توجهه وذهابه وعودته حائزاً على قداسة كمعنى كما قال مارسيا الياد ، إنها الحقيقة والقيمة والمعنى في حين لا تكون كل الأشياء الآخر ، ذات قيمة أو معنى إلا من خلال مشاركتها أو مراقبته في الرحلات وهذا ما تمظهر في رحلتي جلجامش الذي اعتبره ماسينون معطياً الحب لمن عرف الفقدان " عليك أن تقرر نهايتك . عليك أن تنهي جلجامش " ينضح لنا من كلام ماسينون تنوع شخصيته ، حتى صار رمزاً ومجازاً لقلق الذات الآدمية وسعيها نحو المستحيل والصعب لأنهما جوهر الأسطورة التي صاغت الرحلة وأبقت على الوجود الاجتماعي وحافظت على المجال الحضاري الذي يضيء لنا وظيفة الرحلة الاجتما - ثقافية ودينية بالغ الأهمية ، كذلك تكشف لنا الوظيفي الضامر بين الدينوي والمقدس الذي اعتبره روجيه كايوا قوة من العتق والخفاء ولا يقبل الترويض أو التجزئة .
أثارت قراءتي لبحث السيدة زينة الشبيبي " جدلية الرحلة وتناصاتها في الفن المسرحي" ، الكثير من الاستعادات الذهنية عن أساطير وملاحم الرحلات الشرقية وهي كثيرة وصاغت مجالاً ثقافياً واجتماعياً ودينياً بالغ الأهمية وقد توصلت الباحثة لذلك وقدمت قراءات مهمة ، كشفت وعيا عالياً بالأسطورة وحفزني بحثها على تدوين ملاحظات عديدة متجاوزة مع هذا البحث / أمل انجازها وأتمنى أن تدعم السيدة زينة هذا الانشغال بالأسطورة بموضوع آخر لتكرس اهتمامها الثقافي والفني .