شاكر لعيبي
لدينا نموذج نسويّ يشابه الإغريقية بينيلوب Pénélope، أو بينيلوبي (بالإغريقية "بينيلوبيا" أو "بينيلوبي") وهي في أوديسة هوميروس زوجة أوديسيوس المخلصة التي ظلت ترفض الخاطبين الذين تقدّموا لها طوال غيبته في رحلته الطويلة حتى عاد إليها في النهاية. وفي حكايتها أنها كانت تزعم أنها لن تتزوج إلا بعد الانتهاء من نسج كفن كبير لزوج أمّها بعد موته. في الليل كان تنقض نسجها وتزعم أنه لم ينته، وهكذا حتى عودة زوجها أوديسيوس.
في الثقافة العربية الكلاسيكية هناك مثل عربيٌّ وحكاية مُشابِهة. ففي كتاب الميدانيّ (مجمع الأمثال)، نقرأ المثل "أخْرَقُ من ناكثةٍ غزلها"، ويقال [أيضاً] من ناقضةٍ غزلها. وهي امرأة كانت من قريش يُقال لها أم رَيْطَة بنت كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة، وهي التي قيل فيها إنها خرقاء وجدتْ صوفاً، والتي قال الله فيها: "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً". قال المفسّرون كانت هذه المرأة تغزل وتأمر جواريها أن يغزلن، ثم تنقض، وتأمرهن أن ينقضن ما فتلن وأمْرَرْنَ، فضُرب بها المثل في الخرق.
ما هو تأويل مفسّري النصّ القرآنيّ للآية "ولا تكونوا كالتي نقضتْ غزلَها من بعد قوةٍ أنكاثاً"؟ في تفسير الطبري أن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة، أو خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه، أو هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. وقال آخرون، حسب الطبري دوماً، إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة، نحواً مما قلنا. وفسّره أيضا بالقول: فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقوله (أَنْكَاثًا) يعني أنقاضاً، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها: نكْث حبلاً كان ذلك أو غزلاً يقال منه نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثاً، والحبل منتكِث إذا انتقضت قُواه.
وعند التأمُّل في الحكايتين، نفكرّ بالتفارُق بين دلالة فعل اليونانية بينيلوب وفعل العربية أم رَيْطَة بنت كعب بن سعد. الأولى فعلتها تُضْرب في الحكمة، والثانية يُضْرب فعلها في الحماقة، أو هكذا يقع تصويره.
لكننا في نهاية المطاف لا نجد أنفسنا مقتنعين بالإتهام الموجَّه لأم رَيْطَة بالخرق. ألا يجوز أن العرب قد سمعت بالحكاية اليونانية وألّفت حكاية الخرق وفق فهمها للأسطورة اليونانية؟ هنا يكون الخلل واقعاً في فهم الحكاية الأصلية، إذا ما كانت قد وصلتْ بالفعل إلى الجزيرة العربية.
من جهة أخرى، فإن تقديم تصوُّر دقيق لمفهوم الخرق مهمّ في السياق الحالي. هذا المفهوم يُستخدَم هنا بمعنى الحمق. لكن استخداماته المجازية الكثيرة تُوْصِلُه، مثله مثل مفردات كثيرة أخرى، إلى تخوم دلالية شتى، منها الشعرية. لكنه يعني أيضاً الفزع الشديد. وكلاهما الحمق والفزع في صلب البحث البسيكولوجيّ.
ملاحظة:
(المادة لم تُنشر قَطّ، وهي مستلّة من مجموعة أنترنيتية كانت قائمة قبل سنتين بعنوان "لسان العرب حسب سيغموند فرويد" تُشكّل مادتها كتاباً. وللأمانة العلمية: أشار لي الصديق زكريا محمد مؤخراً أن د. طه حسين قد يكون أوّل من نبّه إلى هذا التماثُل بين المرأتين الإغريقية والعربية).