د.عقيل مهدي يوسف
الإنسان ، أنثى ورجل ، هو لغز عند مقاربته دينياً وفلسفياً وفنياً عبر التاريخ، في محاولة للوصول الى تعريف جوهره الوجودي المرتبط بمجتمع ما ، يشكل كينونته وأفكاره ، وأنماط سلوكه .
قد تكون المرأة ذاكرة موشومة بالعذابات، في ما تحملته من انتهاك حقوقها وتدمير لحريتها، بفعل سطوة الرجل الأحادية، وتهميشها بطريقة مأساوية مقيتة في الغالب.
وهي الأكثر تأثرا ً بالصراعات الإثنية والدينية والسياسية. لذلك باتت قضيتها، غيرية، تخص اختلافها الجنسي والأنطولوجي، وسعيها الى تكريس مساواتها بالرجل بعيداً عن ثنائية (السيد والعبد). التي تصادر حقوقها وتكبل حريتها وتجعلها رهينة البيت ، محاطة بأسلاك من التلفيقات الخانقة لطموحها .
يقول (جون كيلي): "ينبغي أن نعيد المرأة الى التاريح وأن نعيد تاريخنا الى المرأة" حتى نقوى على تشكيل عالم مستقبلي حر يجمعنا .
إن كل هذا الصراع المستعر حول غواية الجسد الأنثوي يرجعه (فوكو) الى حقيقة سياسية رمزية ، للسيطرة كما يقول ، على تقرير المصير ، وتوزيع الفرص ، ولكنه يظهر وكأنه صراع فردي .
وتطرح ( سيمون دي بوفوار) هذا السؤال: " ما السبب الذي جعل هذا العالم دائماً ملكاً للرجال؟ " وهل بالامكان أن يتقاسما معاً عالما مشتركا ً؟
حتى في المجتمعات المتطورة الرأسمالية والديمقراطية، نرى عدم توازن مابين شعارات المساواة وماتعيشه المرأة حقاً من غبن ، في برامج الوظائف وهدر حقوقها أمام فرص العمل المجيرة للرجال .
لذلك كان الشاعر (مايكوفسكي ) يرى إن الاستلاب يضطهد الرجل والمرأة معاً ، لأسباب اجتماعية واقتصادية ويدعو الى تحقيق العدل والسلام والديمقراطية والحرية كاملة غير منقوصة للجميع .
تتعدد أوجه الاستغلال ، والأقنعة المموهة التي (يجنس) فيها الرجل ، أشكال المرأة فهي بحسبه غاوية، متأمرة ، سلعة ، ويعيد تركيبها عبر تواريخ معتمة ليجري تغييبها عن قيمتها الإنسانية الحقة ، وتعطيل قوتها الخلاقة وكأنها تشكل تهديداً وجودياً لمستقبله على الأرض !
لذلك تقلبت أطوار المرأة مابين مقاربات أسطورية أو تاريخية واجتماعية أو نفسية أو وجودية، وبمرموزات مختلفة المعاني والدلالات تارة يضخها الرجل ، وأخرى تتلبسها المرأة نفسها ، بثقافة ذكورية طاغية، تضطهدها ، وتصادر وعيها وأنويتها ، وتفرغها من محتواها وتغربها عن حقيقتها كأنثى , والبديل هو أن تشاطر الرجل قضايا مشتركة متكاملة.
وهذه هي حقيقة المجتمعات ( البطرياركية) الأبوية ، التي تثبت معاييرها الصلبة في الحياة الاجتماعية على حساب المرأة التي تسعى مع الرجل العصري الى تكريس مفاهيم مغايرة وجديدة تمنح المرأة حقها في التعليم والعمل والمعاملة كالرجل الناضج بعيداً عن التشكيلات الثقافية المتخلفة، التي تفرض على المرأة ضرورة التماهي مع صورة الرجل (المركز) وكأنها هامش يدور حوله أينما دار , مما يكرّس البعد عن تخوم عوالم المرأة وكأنها جنس ثانوي ، يتبع جنس الرجل الأول وحارسةً لقيمه .
ومن حيث التوصيف ترفض (نازك الاعرجي) مصطلح " الكتابة الأنثوية" لأنه يحيل الى الجنس ورقّة الأنثى وتقترح مصطلح بديلا هو (الكتابة النسوية) لأنه يمثل إطاراً مادياً وبشرياً وعرفياً واعتبارياً .
كان (ارسطو) يناقش مفهوم (الإنسان) في فلسفته تحت لفظ (انثروبوس) التي تعني : الموجود البشري الحر ، ولكنه لم يدخل المرأة في دائرته الرجولية تلك ! وكأنها (هيولي) لإنجاب الأطفال أو تؤدي دوراً مزدوجا ً كما أراده لها (روسو) : أن تكون جذابة جنسيا ً ومحتشمة خلقياً ، أي منحلة وعفيفة معاً . وعلى وفق هذا النسق من التفكير ، لم يحدث أن يتقبل أمثالهم ، المرأة كما هي على سويتها الطبيعية والإنسانية .
في الغالب ، يؤكد الحديث عن النساء ، على الجانب التشريحي للمرأة وكذلك على الأعراف والتقاليد السائدة، ويهمل ما يمكن للثقافة أن تفعله من متغيرات وتعديل سلوك على المستوى الاجتماعي والسايكولوجي، ويتجاوز النظرة التبخيسية الى المرأة، كما فعل "فرويد" ، باعتبارها (فاقدة لشيء ما) ، وهو الذي يمتلكه الرجل فتقوم بالحسد عليه والغيرة منه .
كان (أنجلز) قد شخّص أول صراع طبقي ظهر في المجتمع هو الزواج الأحادي الذي اضطهد فيه الرجل ، المرأة تاريخياً ، لكن من جانب آخر ظهرت المرأة الكاتبة ، والفنانة ، والمفكرة ، التي تعي ذاتها وتناضل من أجل تكريس إرادتها ، وتبحث عن سبل لاقتحام المؤسسة الاجتماعية بما تمتكله من قدرات ومواهب لتتجاوز الحيف الذي لحق بها ، بالخلق الفني ، والانخراط في كلّ جمال مؤثر يتجاوز الوعي الزائف بانفتاح عقلاني ملموس يقترن بالحياة المتدفقة بلا ازدواجية الفكر المنعزل عن الممارسة كالذي يشيع في أوساط بعض زمر المثقفين ، الضائعين ، بين حضارتين متناقضتين .
وبدلاً من ذلك ينبغي أن تأخذ المرأة مداها الاجتماعي اللائق في إطار بنية متكاملة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ، وبنزعة انسانية مساواتية .
يزخر المسرح العالمي بأمثلة للمرأة ، مابين الإيجاب والسلب ، منها مثلا ً ( ميديا) للكاتب الاغريقي " يوربيدس" التي تقتل أطفالها لتحرم زوجها منهم ، بسبب خيانته لها وهي تصرخ : " نحن النساء أسوأ المخلوقات حظاً لاتخاذنا من الرجل سيداً لأجسادنا ، لأنه من أسوأ الأمور ألّا يكون لنا زوج " .
وكذلك (شكسبير) في "ترويض النمِرة " حيث تظهر شخصيتها كأمرأة بأسم (كيث) المتمردة على ثقافة الرجل "بتروشيو" .
ونجد في مسرحية (ماكبث) الزوجة تصرخ : (تعالي إليّ أيتها الأرواح جرديني من ضعف بنات جنسي) . أما عن (إبسن)
في مسرحية " بيت الدمية " فترانا نجد الزوجة (نورا) تثور على أنانية زوجها (هلمر) . لكي تجعله إنساناً يليق بدوره العائلي المطلوب .
يطلعنا (جوته) على ما عانته البطلة (افجينيا) من مصاعب عند قرارها العودة من الأسر الى موطنها وهي تنقذ معها أخيها وصديقه ونفسها لأنها تؤمن بأن الحب يمثل لها ماهية وجودها الخاص .
أما اليوم فتلتصق الدراما النسوية بمشكلات الحياة وتعرفنا على أنفسنا وعلى الآخرين الذين يشاطرونا المرور بتجربة التحولات الاجتماعية والمتغيرات المعرفية والتطورات التكنولوجية التي تحفز قدراتنا وتعيد تركيب تصوراتنا ، للخلاص من براثن عالم مندثر والشروع في بناء عالم جديد .
ومما يخص على مستوى المسرح العالمي المخرجات النسويات تحيلنا (هيلين كيسار) في كتابها " المسرح النسوي" الى مقولة تبيّن مدى اعتزاز المرأة في ذاتها وقدراتها حين تبدع وتعبر عن أفكارها وموقفها من الحياة ، وباتت بمثابة شعار لفرقة (مسرح نيويورك) : (لي الحق الكامل في كوني امرأة) وهكذا نجد رهطاً من الفنانات والمخرجات في المسرح يقمن بصياغة حياتهن النسوية ويصممن معمار عروضهن الجمالية بفضاءات مشحونة بالأحلام والمشاعر التي تخص المرأة في كل زمان ومكان .