TOP

جريدة المدى > عام > طريق الحكمة ، طريق السلام :كيف يفكّر (الدالاي لاما) ؟

طريق الحكمة ، طريق السلام :كيف يفكّر (الدالاي لاما) ؟

نشر في: 28 أغسطس, 2018: 07:20 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم التاسع

يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق المجتمعي - السايكولوجي - الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي.
أقدّم في هذا القسم (وأقسام أخرى لاحقة) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى (طريق الحكمة ، طريق السلام) الذي أوشك على إتمام ترجمته .
إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر (Crossroads Publishing Company) عام 2004 .
المترجمة

عودة الذات المتنوّرة

* التعاليم البوذية الخاصة بإعادة الإنبعاث لكلّ الكائنات لاتتّفق أو تتناغم مع التقاليد المسيحية التي ترى في ( الحياة في المسيح ) الغاية القصوى في الحياة ؛ لكن برغم ذلك فإنّ العديد من الأوروبيين - ربعهُم بحسب بعض الإحصاءات - يعتقدون بإعادة الولادة .....
- إنّ الكيفية التي نولد بها في الحياة اللاحقة (الجديدة) تعتمد على توجهاتنا العقلية في الحياة السابقة . نحن نؤمن بأربعة أشكال من إعادة الولادة ، ويمكن القول بعامة إنه ليس في مقدورنا إختيار الظروف التي يتمّ فيها إعادة إنبعاثنا في هذه الحياة . تمتلك حالتنا أثناء عملية الإحتضار تأثيراً عظيماً حدّد طبيعة الإنزياحات الكارمية المؤثرة في تشكيلنا عند الولادة الجديدة : تتحدّد طبيعة إعادة الإنبعاث في المستوى الأوطأ كلياً تبعاً لأفعال المرء في حياته السابقة ، أما في المستوى الذي يليه فيكون ممكناً للمرء أن يمارس بعض التأثير في إختيار مكان حياته الجديدة (بعد إعادة الإنبعاث) وكذلك اختيار الموجودات التي تملأ المكان . ثمة ايضاً بعض الناس الذين نالوا تأهيلاً خاصاً ليمارسوا دور القادة أو الأسياد ذوي السطوة الدينية . في المستوى الأخير والمتقدّم يمكث بوذا الذي نال استنارة كاملة مطلقة والذي يُعادُ بعثه لا لشيء سوى مساعدة الآخرين وتقديم الدعم لهم .
نحن نؤمن - تبعاً للتقاليد التبتية - بضرورة الإستفادة من ثمرات حياتنا السابقة في ترصين شكل وجودنا ككائنات بشرية وككائنات روحية معاً ، ويعني هذا الأمر أننا لو كنّا راكمنا قدراً جيداً من (الكارما) الطيبة في وجودنا السابق من خلال أفعالنا الطيبة وأسلوب حياة مقبول ومناسب فلاينبغي لنا التفريط بهذا الخزين المتراكم وبعثرته في عيشة متّسمة بالبذخ والرفاهية ، وكلّ ماينبغي أن نفعله هو الإتّكاء على هذا الخزائن المجيدة من أفعالنا الطيبة والتطلّع المقترن بالكفاح في الوقت ذاته من أجل وجود أكثر كمالاً . بالنسبة لنا تمثّل الحياة البشرية ذاتها شيئاً عظيم القيمة وفرصة عظيمة على المسار المؤدّي للكمال .

الآن هو وقت فعل الأشياء الطيبة

 غاية الكمال هي بلوغ النيرفانا - " إبطالُ " كلّ المعاناة ......
- وجودنا منذ الولادة وحتى الممات متخمٌ بكلّ صنوف المعاناة ، وغاية كلّ سعينا الديني يجب أن تكون وضع نهاية لكلّ هذه المعاناة . إنّ كلّ فردٍ يتجاوز حالة المعاناة في هذا العالم (يدعى Dukha) هو من نال حالة التحرّر (من المعاناة) ، والمعاناة ذاتها لاتعني الأشياء غير الطيبة التي نختبرها في هذه الحياة بل أنّ الحياة ذاتها هي المعاناة المستديمة لكونها عرضة لإعادة التشكّل والخلق الأبدي . النيرفانا هي الغاية الأسمى عصية التحقّق والتي ينال المرء فيها السلام الكامل ، وهي أمر لاينبغي له أن يقودنا لنسيان واجباتنا الواضحة بل على العكس ينبغي أن يدع تعاطفنا تجاه الآخرين ينمو أكثر فأكثر من أجل تقديم الخدمة لهم .

ليس الأمر شيئاً يختصّ بالأحلام المادية

 البوذية ، إذن ، مشغولة بوضع حدّ لِـ " عجلة إعادة الإنبعاث " المتحركة وسط الآلام والمعاناة الحزينة . المقاربة الغربية للتعاليم البوذية الخاصة بإعادة الإنبعاث تتطلّع للإقتراب من تحقيق الذات من خلال سلسلة من إعادة الإنبعاثات الأفضل من سابقاتها وبكيفية يأمل فيها الناس أنّ كلّ حياة جديدة ستجلب معها شكلاً أفضل من الوجود البشري ...
- ماالذي يفهمه الناس بشأن الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الحياة الطيبة ؟ لايمكن مساواة هذه الحياة بالحياة المبهجة التي نشهد فيها تحقّق كلّ الأمنيات والأحلام المادية ؛ بل هي حياة تُعاشُ في وعي كامل للمسؤولية الأخلاقياتية - حياة لايفكّر فيها المرء برفاهيته الشخصية فحسب بل يخدم الآخرين فيها كذلك . الكارما الطيبة لاتُخلقُ إلّا من خلال الأفعال الطيبة ، وكنتيجة لهذا الأمر يغدو المرء شخصاً أفضل ويجد بيئة افضل بكثير لحياته لافي هذه الحياة الحاضرة وحدها بل في الحياة القادمة كذلك ، وهكذا يمكن بلوغ مستوى اعلى في الطريق نحو النيرفانا . كلّ روح هي استمرارية لروح سبقتها ، ونحن نضع إيماننا القائم على إعادة الإنبعاث بصورة رئيسية في إستمرارية الروح ، وهذا أمر يخضع إلى القانون الكوني في السبب والنتيجة ، والنظريات البوذية في كلّ من الوعي المستديم وإعادة الإنبعاث والكارما إنّما تتأسّس على هذا المفهوم - مفهوم استمرارية الروح في الحياة .

أفعالٌ طيبة، أفعال سيئة

 يمكن فهم الكارما ، إذن ، باعتبارها اتحاداً بين الفعل والنتيجة . بكلمات أخرى : يصبح الكائن البشري على صورة أفعاله ، وبمعنى من المعاني تحدّد أفعاله نوع الرحم الذي يولَدُ منه في عملية انبعاثه الجديد . هل يعني هذا أننا نستطيع أن نقرأ الأفعال السابقة (لشخصٍ ما) من خلال التفكّر في مستقبله الموعود ؟
- في لحظة الموت يقع الوعي تحت تأثير كلّ النوايا والدوافع والأفعال والتجارب للإنسان المحتضر . إنّ إعادة مكافأة الأفعال التي فعلها الشخص في حياته السابقة هي مايحدّد إتجاه ومسار الحياة العتيدة اللاحقة : مافعلناه بالآخرين سترتدّ مفاعيله علينا في الحياة القادمة ، وهذه هي الكيفية التي يستمرّ بها الوعي في الوجود ويتمُّ إعادة ولادته مع الكارما المتراكمة في هيكل جسد جديد .
قد يحصل هذا (التجسّد) الجديد في صورة حيوان ، أو شخص ، أو كائن علوي . لنأخذ على سبيل المثال فسيلة من شجرة ، النتيجة بالطبع (وهي الفسيلة في هذا المثال) خُلِقت من سبب سابق لها وهو البذرة . الكارما الطيبة تُخلقُ من مجموع المزايا النبيلة مثل التدبير وعدم الإسراف ، القناعة ، التواضع ، الصبر ، التسامح . الكارما الشريرة يمكن توهين قواها وإضعافها من خلال التوبة والأسف .
الأفعال السيئة ينبغي التوبة عنها مع تصميم ثابت على عدم العودة لفعلها في المستقبل . يمكننا التحرّر من أسر السلسلة الأبدية (الولادة ، المعاناة ، الموت ، إعادة الولادة) فقط عندما تنطفئ الكارما الشريرة كلها في دواخلنا ويبطل عملها بالكامل ، ويعني هذا الأمر : فقط عندما نحرّر أنفسنا من كلّ الرغبات الدنيوية نستطيع حينئذ تحقيق مثال الحياة البوذية الكاملة .
غير أنّ الكارما موضوعة في غاية التعقيد ، وليس كلّ مايحصل في حياتنا مرتبطاً بالقوى الكارمية . الجسد البشري ، على سبيل المثال ، نتج عن آلاف السنوات من التطوّر (البيولوجي) ، وهذا أمر يجعل محاولتنا مكتنفة بصعوبة بالغة عندما نحاول رسم حدّ فاصل بين تأثير نتائج الكارما من جهة وتأثير القوانين الطبيعية الفاعلة في الجسد البيولوجي من جهة أخرى .

هؤلاء الذين لايفعلون شيئاً
مايزالون يسلكون مسلكاً يجانِبُ الصواب

 أليس ثمة خطر كامن في أنّ فكرة الكارما قد تقود الشخص إلى مسلك قاتل عندما يستكين ويخضع لمصيره المحتوم ؟
- يردّد الكثيرون من التبتيين القول : " نعم ، هذا ماحصل بفعل الكارما . نعم ، هذا الأمر بفعل الكارما ..... " ، وهكذا يحاولون تجنب تحمّل المسؤولية على عواتقهم بهذه الكيفية من المحاججة الفكرية . هذا الأمر ، بالطبع ، خاطئ . فكرة الكارما بخاصة ، وأكثر من أي شيء آخر سواها ، ترينا أننا مسؤولون عن قدرنا الشخصي وينبغي أن نمسك بزمام المسؤولية عن رسم طبيعة حياتنا الخاصة ، وفي هذا الشأن نحن نعتقد بأنّ مقاصدنا وغاياتنا هي الأمر الأكثر جوهرية من سواه : طالما كنّا ساعين لفعل الخير ؛ فحتى لو كانت النتيجة غير طيبة فلن يترتّب على هذا الفعل تأثيرات لها مفاعيل غير محمودة في لاحق الأيام . من جهة أخرى ، عندما لانفعل شيئاً حتى في الحالات التي يكون فيها شخصٌ ما معتمداً كلياً على مساعدتنا له فيمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى تعالقات كارمية معقّدة .
ثمة كارما جمعية وأخرى فردية . الكارما الجمعية ترتبط بمجتمع ، أو جماعة ، أو عائلة ؛ لكن برغم ذلك فإنّ الفرد يطاله تأثير الأفعال التي يفعلها هو بذاته وحسب ، ويبدو لي هذا الأمر هو العنصر الأكثر حسماً وتأثيراً : كلّ مايختبره الكائن الفرد يعتمد على دوافعه الطيبة او الشريرة ، والدوافع الفردية بهذا المعنى هي أصل كلّ الأفعال والتجارب الخاصة بالكائن الفرد . الكارما لها أيضاً جانب ميتافيزيقي وأخلاقياتي ؛ إذ أنّ الكارما الشريرة يتوجّب توهينها وجعلها غير مؤثرة في نهاية المطاف من خلال الأفعال الطيبة والحياة الطيبة معاً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram