سامي عبد الحميد
بدعوة من عمادة كلية الآداب بجامعة بغداد ألقيت محاضرة عن الملحمة الخالدة تطرقت فيها إلى أهمية ذلك النص الأدبي الشعري في تاريخ الأدب العراقي وتراثه، وفي مجال الفن المسرحي وأصالته، وأشرت في المحاضرة إننا في العراق، وهو موطن الملحمة لم نلتفت إليها ولم نحوّلها إلى عرض مسرحي ملحمي إلا في زمن متأخر بينما سبقنا المسرحيون في الغرب في تحويلها إلى أوبرا وقدموها بأشكال متنوعة.
كان من حظ طلبة قسم الفنون المسرحية بأكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد أن يكونوا أول من يشارك في انتاج الملحمة مسرحياً عندما توليت إخراج النص الذي ترجمه عن اللغة المسمارية وقدم العرض الآثاري الكبير الراحل (طه باقر) .
وتم العرض في مسرح صغير اكتظ بالممثلين وبالجمهور وأشاد به كل من شاهده من عامة الجمهور ومن الفنانين المسرحيين ومن النقاد وفي مقدمتهم الاديب والناقد الكبير الراحل (علي جواد الطاهر) والذي طلب في مقالة له في إحدى الصحف المحلية أن تتبنى المحلمة مسرحياً الفرقة القومية للتمثيل وقد استجابت إدارة الفرقة لذلك الطلب، وقمت بإخراجها بأسلوب مختلف عن إخراجي السابق وخصوصاً في محاولة تطبيق الدقة التاريخية في الملبس وفي المنظر حيث قام بتصميمها الفنان الراحل (كاظم حيدر) مستفيداً من رسوم الرُقم الآثارية الطبيعية ومن الحرف المسماري. وأتذكر إن الملحمة تم عرضها في دمشق خلال مهرجان مسرحي عربي، وبوقتها تصدى أحد النقاد السوريين للعرض واتهمني بأنني كنت متخفياً في إخراجي للملحمة وتقبلت النقد برحابة صدر وقلت نعم كنت متخفياً لأنني كنت أريد أن أبرهن على إمكانية تقديم الملحمة بأسلوب له مرجعية آثارية. وإنني سأقدمها مرة أخرى بأسلوب يبتعد عن المتخفية لأبرهن أيضاً إن هذه الملحمة الهائلة يمكن معالجتها مسرحياً بأشكال مختلفة، وهكذا منذ قدمتها مع طلبة قسم التربية الفنية في كلية الفنون الجميلة بأسلوب تحريري وفي مسرح الحلبة وليس مسرح العلبة. ومع أعضاء الفرقة القومية للتمثيل أخرجت نصاً كتبته الاديبة (لطيفة الدليمي) بعنوان (الليالي السومرية) معتمدة على النص الأصلي للملحمة مع استبدالي حوارها الأصلي بحوار من صنعها وبنهاية جديدة مختلفة عن نهاية الملحمة حيث تتمكن الشخصيات النسائية في الملحمة (عشتار وسيدوري وزوجة اوتوبنستم) من إقناع كلكامش أن لا يستمر في رحلته للبحث عن الخلود. في معالجتي الإخراجية، هذه المرة، إفترضت وقوع أحداث الملحمة في منطقة الفرات الأوسط وفي الأهوار في محالة لعصرنة البيئة فأستحدثت القصب والمياه للمنظر المسرحي واستخدمت ملابس سكان الأهوار في الوقت الحاضر كأزياء لشخوص المسرحية نسوةً ورجالاً.
وفي الألفية الثانية قدمت الملحمة مرتين بأسلوبين مختلفين أيضاً، مرة مع طلبة كلية الفنون الجميلة ومرة أخرى مع مجموعة من الشباب وبرعاية من وزارة الشباب والرياضة. وأعترف بأن العرض الأول للملحمة مع طلبة اكاديمية الفنون الجميلة كان هو الأكثر نجاحاً وذلك لتوفر الصدق والحماسة والتلقائية في الأداء. واعتقد أن الملحمة ما زالت تنتظر من يتصدى لإخراجها من المخرجين الجدد ولذلك أدعو (الفرقة الوطنية للتمثيل) وإدارتها أن تخطط لإعادة تقديمها في السنوات القادمة. وأكرر دعوتي لوزارة الثقافة أن تتخذ من تقديم الملحمة مسرحياً تقليداً سنوياً وربما في مهرجان بابل لتكون مرفقاً سياحياً يجتذب الأجانب. زارتني احدى التدريسيات الباحثات واجرت معي مقابلة بحثية حول مسرحية قاسم محمد (بغداد الأزل بين الجد والهزل التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث عام 1974 ومن تأليف وإخراج ذلك المسرحي المبدع الذي رحل عنا أسفاً، في وقت مبكر. وفي تلك المقابلة تعرضت إلى أسباب تأليف وتقديم تلك المسرحية فقد سادت في الوسط المسرحي العربي في مرحلة الستينيات من القرن العشرين ، نزعة البحث عن تأصيل المسرح العربي والاستفادة من التراث الأدبي في هذا المجال، وكان (قاسم) أحدهم فبعد رائعته الواقعية (النخلة والجيران) وطليعيته (الرجل الذي صار كلباً) قدم احتفاليته في السوق البغدادي القديم وقد اقتبس مادتها من مصادر عديدة ومنها كتاب (البخلاء) وكتاب (البيان والتبين) للجاحظ و(مروج الذهب) للمسعودي ومن مقامات الهمداني والحريري واعتمد (الحكواتي) عنصراً رئيساً في العرض المسرحي حيث يروي الأحداث ويصف الشخصيات وأفعالهم ويعلق عليها، واختار أنواعاً مختلفة من الشخصيات – العيّاريين والطفيليين والمتسولين والتجار الجشعين. وصمم لهم بيئة مسرحية تمثل العمارة التراثية لبغداد، الفنان الراحل (كاظم حيدر).