فراس الشاروطيحاول المخرج العراقي الشاب حيدر رشيد أن يطرح في فيلمه (المحنة) معاناة وغربة شاب عراقي يعيش صراع الحياة بين واقعه وذاته... البطل وحيد يتسكع بلا هدف في شوارع لندن، تلك المدينة الغاصة بالنساء والضوضاء وصخب الفرح،
المدينة التي ترفض أن تنام ليلا، يناضل للخروج من عالمه نحو آفاق أرحب، علاقته بصديقته التي يعشقها بصمت منذ أربع سنوات، صديقه الوحيد الذي لم نراه ألا في مشهد عابر واحد (أداه المخرج نفسه)، لا يختلط بالعالم وغير مجامل بالمرة يصعب الحديث معه (كما في حواره مع الشاب الإيطالي)، وحيد ولا يملك حتى هاتفا جوالا يتصل بوالدته من خلال أكشاك الهواتف العمومية،استشهاد والده في العراق وشرائط التسجيل التي بعثها له قبل مقتله التي يحكي فيها عن حبه وعشقه وحنينه لبلده ومدينته حتى عاد ليموت فيه هي العالم الذي يحاول جاهدا اكتشافه فيكتب رواية عن أبيه من خلال استنتاج ما أفرزته حوارات الأشرطة لديه، من ضجره ينام في سيارته دائما تاركا شقته للديدان والأتربة، أنه يدور في حلقة مفرغة وكلما يخطو خطوة يعود دائما وأبدا إلى نقطة البداية. ركز المخرج على المشاهد الطويلة واللقطات الكبيرة حتى أشعرنا حقيقة بالقرف والضجر الذي تحمله الشخصية، فاللقطة الكبيرة هي خير تبرير لعزلة الشخصية وسيكولوجيتها المعقدة وما يعتليها من أحزان ويأس ووحدة عن ما يحيط بها، أللقطة الكبيرة هي فخر السينما كما عبر يوما عنها أحد نقاد السينما.كل شيء متحالف ضده هكذا يشعر فهذه ليست الحياة التي يريد ولم يخترها وعليه أن يواجه لو أراد الاستمرار والوجود. في النهاية يصارح صديقته بحبه الذي يحمله منذ سنوات أربع ورغم ردها السلبي نحوه وكلامها الجارح ألا أنه أحس بأنه أفرغ ما بداخله وعليه مواجهة نفسه الآن فيمزق العقد الذي يروم إبرامه مع دار النشر لنشر روايته عن والده القتيل، ويضع صندوق أشرطة التسجيل الذي رافقه طيلة مسيرته في شوارع لندن تحت مقعد القيادة، لقد أنتهي كل شيء وعليه تقبل الحياة، يفتح باب سيارته ليغيب وسط جموع الناس على أرصفة لندن الباردة الضاجة.فيلم حيدر رشيد الجميل ينتمي إلى روح السينما البريطانية الجديدة في استخدامها عمق المجال واللقطات الكبيرة بل، الكبيرة جدا (big close ) والتركيز على التفاصيل الصغيرة والمشاهد الطويلة، لكن المخرج تعامل بذكاء مع مشاهد حوارية طويلة وبحركات كاميرا أدخلتنا في جو العمل دون رتابة أو ملل( كما في مشاهد المكاشفة مع صديقته) قصة إنسانية ذات سيناريو محكم رغم أجوائه القاتمة والسوداوية، ولابد لنا من أن ننوه بالأداء المتميز للبريطاني أيان أتفليد وزوي رغبي، اللذين كانا متفهمين تماما لعوالم شخصياتهما، الفيلم مستوحى من مسرحية قصيرة للكاتب (براد بويسون) ومهدى إلى روح الشهيد كامل شياع.
(المحنة) رصد لضياعنا وسط زحام الحياة
نشر في: 21 إبريل, 2010: 05:35 م