TOP

جريدة المدى > عام > كتب ملعونة..سعادة الإنسان تكمن في إزدياد حريته

كتب ملعونة..سعادة الإنسان تكمن في إزدياد حريته

نشر في: 1 سبتمبر, 2018: 08:57 م

ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة

 علــي حســين

|  13   |

كان في الثامنة من عمره عندما شاهد هذا المنظر الذي دفع به أن يتمرد على النظام الإجتماعي والديني السائد آنذاك..كان المشهد في باحة المعبد اليهودي بأمستردام، حيث أخذ عدد من رجال الدين يطؤون بأقدامهم رجلاً كان ممداً عند مدخل باب المعبد.
فسأل الصبي والده : ماذا فعل هذا الرجل ليتلقى هذا التعذيب والإهانة؟
قال الأب وهو يسحب ابنه خارج المعبد :"إنه أوريل أكوستا.. مفكر حر ياولدي"، ثم أخذ الصبي يسأل والأب يجيب ويشرح لابنه كيف تم طرد أكوستا من المجمع اليهودي، لأنه كان يشكك بما جاء في التوراة، وكيف إن الحاخامات يريدون أن يستأصلوا خطايا أكوستا بالدوس عليه بأقدامهم لكي يتخلص من ذنوبه، ويُسمح له من جديد بدخول المعبد.

عندما عاد الصبي إلى البيت، حاول أن يشرح لأمه كيف تم تعذيب أوكاستا، فنصحته بأن يمسح هذه الافكار من ذهنه، وعندما حاول أن يخبر زملائه في المدرسة عما رآه في المعبد تلقى صفعة من الأستاذ الذي طلب منه أن لايتحدث بسوء عن الدين. بعد أيام سَيخبره والده إن أوكاستا أطلق الرصاص على نفسه، بعد أن سعى رجال الدين لمضايقته وإهانته في كل مكان.
بدأ الصبي يفكر في ذلك العالم الغريب، عالم الحمقى الذي سيسميه فيما بعد، وبدا له أن الإنسان يحاول أن يصيب الإنسان الآخر بأذى.. ولاحظ كيف يكره اليهود بعضهم بعضاً، وكيف طُرد أجداده من إسبانيا بسبب كراهية المسيحيين لليهود، لذلك كتب في دفتر صغير عبارة مثيرة :"عندما أكبر، سأحاول أن أجد وسيلة أضع بها حداً لكره الناس بعضهم بعضاً".
في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1632 في امستردام بهولندا جاء طفل لعائلة يهودية ميسورة، قالت عنه أمّه فيما بعد:"طفلي مخلوق حسن النيّة، لكن مستوى ذكائه للأسف أقل من أقرانه، وهو خامل طوال الوقت."
عاش باروخ إسبينوزا في طفولته وصباه حياة عادية، فوالده ميخائيل تاجر ميسور، سعى لأن يتعلّم ابنه في إحدى المدارس الدينية، ويدرس الكتب المقدسة وكتباً دينية وفلسفية، حيث كان الأب يطمح في أن يصبح ابنه حاخاماً، لكنه يخيب ظن الأب ففي الثالثة عشرة من عمره عثر في مكتبة المدرسة على كتاب : التأملات"لرينيه ديكارت، وما أن قرأ الصفحات الاولى حتى وجد نفسه مسحوراً بأفكار الفيلسوف الفرنسي. فيما بعد سَيخبرنا إنه وجد في كتب ديكارت أجوبة لاسئلة كان يطرحها على نفسه حول أهمية العقل في حياة الإنسان :":"علمني ديكارت أن أعرف معنى الجديد، ووجدت في توطيد الجديد ما يقضي بدحض القديم، لاينفصل الجديد المعرفي عن الحاضر الذي يقضي بتحرير المعرفة من أزمتها، ويسعى الى اطلاق الامكانيات الانسانية."، عندما يبلغ السابعة عشرة من عمره يقرر إسبينوزا أن يضع كتاباً عن ديكارت، ويعلن إن سلطة أفلاطون وأرسطو لاتعني له شيئاً، فهي حسب رأيه لاتلائم تقدم العلم والفلسفة :"أعلم حقيقةً إن هذه الأحكام المسبقة تمنع البشر من التفلسف، واعتقد إن من المفيد أن أقوم بفضح هذه الأحكام، وأن أخلِّص منها العقول المفكرة"، وقد جعلت دراسته لمنهج ديكارت من المستحيل عليه قبول كل عبارات التوراة، وأيضا تفسيرات رجال الدين، حيث بدأ يفكر بعلاقة الانسان بالدين والعلوم بطريقة تخالف ما تعرف عليه في وجهة نظر اليهود والمسيحيين التقليدية، وقد أعلن مواقفه بطريقة صادمة لعائلته، الأمر الذي دفع شقيقته الكبرى، والتي كانت تريد أن تحرمه من إرث والده، أن تبلغ السلطات الدينية اليهودية عن"هرطقات"شقيقها، مما دفع كبير الحاخامات في أمستردام لاستمالة إسبينوزا الشاب، حيث أبدى استعداده لأن يقدم له معاشاً شهرياً ثابتاً لو إنه احتفظ بآرائه لنفسه، ولم ينشرها بين الناس، غير أن الشاب المتحمس رفض العرض، الأمر الذي دفع الحاخامات الى إصدار قرار بمنع جميع اليهود من أن تكون لهم علاقات معه، وأن لايقرأوا له شيئاً، وان لايقتربوا منه، وحاول متعصب يهودي أن يقتله، فطعنه بسكين أحدثت جرحاً عميقاً في جسده، ظل يتذكره في كل مرة يقف فيها ضد تعاليم رجال الدين. وهكذا أصبح وهو في الرابعة والعشرين من عمره منبوذاً، حيث قرر مجلس الحاخامات طرده من الطائفة اليهودية كما أصبح بلا مورد مالي بعد أن حُرِم من ميراث والده، فامتهن صقل العدسات البصرية، وهي المهنة التي ظل يمارسها حتى وفاته، واضطر أن يغادر مدينته امستردام، وتجول في عدد من المدن، ليستقر أخيراً في مدينة ليدن، حيث يعاوده الحنين إلى الفلسفة التي كرس لها كل حياته، وقرر أن يغير اسمه الى بندكت، كي يبتعد عن ملاحقة رجال الدين، مثلما قرر أن لاينشر أثناء حياته سوى كتابين، الأول قام بجمعه طلبته وهو يتعلق بفلسفة ديكارت، والثاني رسالة في اللاهوت والسياسة، لم يضع اسمه الصريح عليها في بداية الامر لخطورة ما جاء بها من أفكار. وأصبح بمرور الزمن معروفاً في الأوساط الفلسفية، حيث عرضت عليه جامعة هيدلبرغ منصب الاستاذية، لكنه رفض المنصب وأصر على الاستمرار بمهنة صقل العدسات، وقدم له لويس الرابع عشر معاشاً بشرط أن يهديه احد كتبه، فرفض العرض أيضاً، وصمّم أن يستمر بحياته البسيطة التي كانت تؤمن له دخلاً متواضعاً، لكنها تساعده في التعبير عن معتقداته دون تحفظ. وذهب إليه الفيلسوف الالماني"ليبنتز"ليزوره في بيته الصغير، وكان شغوفاً بفلسفته بصورة مفرطة، فليبنتز يعترف إنه توصل الى بعض الأفكار الرئيسة لفلسفته الخاصة عندما قرأ إسبينوزا، ويكتب ليبنتز وصفاً لإسبينوزا قائلاً :"التقيت الاستاذ، كان رجلاً متواضعاً يعيش في مستوى الكفاف، لايملك سوى مكتبة كبيرة وأدوات يصقل بها العدسات، زاهد في الملذات، كان بإمكانه أن يملك كل الوسائل التي تكفل له ثراء هائلاً، لكنه تركها بمحض إرادته، فقد كرس حياته للبحث وراء شيء مختلف."
ولما كان إسبينوزا قد ولد ضعيف البنية، وكان في أواخر حياته مجبراً على استنشاق الغبار من صقل العدسات، ونظراً لأن العمل الزائد قد أجهده، فقد أصيب بالسل، وتوفي في سن الخامسة والأربعين.
*******

شاعر ومقاتل
في العام 1644 كتب الشاعر الانكليزي جون ميلتون كتيباً صغيراً بعنوان"خطاب جون ميلتون إلى البرلمان الانكليزي حول حرية الطباعة دون رقابة"، والمقال يعد أول وثيقة حقيقية للدفاع عن حرية النشر يكتب ميلتون :"القضاء على كتاب جيد، يعادل قتل إنسان تقريباً، بل هو أسوأ أيضاً بشكل ما، لأن من يقتل رجلاً يقتل كائناً مفكراً صَوّره الله، لكن من يقضي على كتاب جيد يقتل الفكر ذاته – أكاد اجزم – على جوهر تلك الصورة الإلهية"، صدر كتيب جون ميلتون بهدف معارضة قرار البرلمان الانكليزي عام 1643 بتجديد الرقابة على المطبوعات، وفيه نجد للمرة الأولى حديثاً صريحاً عن قضية حرية التعبير، وكان ميلتون في الكتاب يسعى لفضح الأساقفة ومعهم القائمون على إدارة الكنيسة باعتبارهم نموذجاً سلبياً يريد قمع حرية الفكر.. كان ميلتون قد سافر عام 1638 الى إيطاليا ليتقي غاليلو العجوز، سجين محكمة التفتيش.. وطالب آنذاك بالغاء محاكم التفتيش واتهم الرهبان"الشرهين والجهلة"بأنهم يقفون في وجه تقدم أوروبا.. ويذهب ميلتون في محاججته، بعيداً حين يقول إنه ليس من المناسب، حتى، منع طباعة ونشر الكتب التي قد تبدو احياناً، مضادة لمصلحة الدولة أو الكنيسة، لأن الرقابة قد ترتكب الخطأ، إذ تجازف مثلاً، بأن تجد نفسها في مواجهة أفكار تكون من القوة والجدة والرفعة، بحيث قد تبدو في نظر الرقابة مناهضة للمبادئ الأخلاقية أو الدينية، ثم يتبيّن العكس. ويعطي ميلتون مثالاً عن محاكمة غاليليو،"هذه المحاكمة ندّدت بالعالِم وأجبرته على التراجع عن أفكاره، لكن ها هو اليوم بعد سنوات قليلة يعتبر أحد كبار العلماء الذين أنجبتهم البشرية، وها هي أفكاره تعتبر صحيحة وثابتة علمياً"، ويذكر ميلتون كيف أن محاكم التفتيش لم تحاكم فكر غاليليو بقدر ما حاكمت جرأته وتطلّعه الى المستقبل، وقوته الثورية.ورغم أن ميلتون خسر معركته في ذلك الوقت وصدر قرار بمنع الكتيب الخاص بحرية الطباعة، إلا أن الأفكار التي طرحها وجدت صداها في باريس حيث ترجم ميرابو خطيب الثورة الفرنسية كتاب ميلتون ونشره عشية الثورة الفرنسية، واستخدمته كتائب المقاومة الايطالية ضد الفاشية في فضح نظام موسوليني، حيث ترجم الكتاب الى الايطالية ووزعت منه عشرات آلاف النسخ.
كتب الناقد الانكليزي الشهير ريتشاردز في مديح جون ميلتون :"لكي تكون شاعراً عظيماً، ينبغي أن تكون رجلاً عظيماً".. وطوال حياته التي استمرت ستة وستين عاماً ظل جون ميلتون مقاتلاً شرساً في الخطوط الأمامية من معركة الحرية الانسانية، فقد كرس ميلتون المولود في التاسع من كانون الأول عام 1608، حياته للعدالة، وجرب أن يجعل من الشعر وسيلة من أجل الدعوة للحق.. كان ابناً لأحد رجال القانون، عاش طفولة مرفهة، أُرسِل الى مدرسة دينية، لكنه اكتشف منذ الصغر ميلاً الى الأدب وقراءة النصوص الكلاسيكية، يكتب في يومياته :"كنت منذ سنواتي الأولى بفضل عناية أبي، دائم الاطلاع على اللغات وبعض العلوم التي تسمح بها، لقد وجهني ابي منذ حداثة صباي الباكرة لدراسة الآداب الإنسانية التي كنت أستوعبها بلهفة عظيمة".. في سن السادسة عشرة من عمره التحق بجامعة كيمبردج ومن هناك يعلن لأساتذته انه يرفض"المعلومات التافهة الحمقاء"التي يحاول الأساتذة حشرها في عقول الطلبة والتي تسبب"جوعاً في الروح"،في تلك السنوات بدأت تجاربه الأولى في الشعر، ورغم أن أبوه أراد له أن يصبح قساً، إلا أن ميلتون رفض الامر لانه يريد"التحليق في سماء الاحلام، وإشباع رغبته في أن يسمع نفسه وهو يفكر ويتأمل"، وكان يطمح أن يكتب ملحمة شبيهة بملحمة دانتي"الكوميديا الإلهية"، فسافر الى إيطاليا وهناك يُغرق نفسه في شعر دانتي وبترارك،، لكنه ما أن يسمع أنباء التوتر السياسي في بلده حتى يسرع بالعودة الى لندن، ووجد إن النزاع بين الملك ارثر والبرلمان قد اشتد، وكان معظم النواب يطالبون بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية، ووجد ميلتون نفسه ينضم الى معسكر الاصلاحيين الذي تغلب وقضى على الملكية باعدام الملك شارل الأول عام 1649، وخلال فترة حكم كروميل راح ميلتون يكتب مقالات تدعو الى الإصلاح الديني والسياسي وتطالب بحرية الفكر، وفي تلك المقالات أكد ميلتون إن القوة تكمن دائماً في الشعب.ويضيف إن الشعب يودع ثقته إلى حاكم يختاره وفي حالة انحراف الحاكم فان الشعب مخول أن يسحب ثقته من ذلك الحاكم، وفي عام 1651 كان ميلتون يشرف على أهم جريدة حكومية وأصدر كتاباً بعنوان"دفاع عن الشعب الانكليزي". وفيه يوجه هجومه ضد"الصرافيين الذين يدنسون معبد الدين، رجال فرض عليهم أن يكونوا رعاة القطيع، فأباحوا لأنفسهم أن يصبحوا ذئابه، وبدلاً من أن يطعموا شعبهم، غدوا يعيشون على دماء هذا الشعب"، وقد حظيّ الكتاب باهتمام من القراء حيث طبع خمس عشرة طبعة خلال عام واحد.. في تلك السنوات بدا بصره يضعف بسبب انهماكه في القراءة والكتابة.. وبعد وفاة كروميل تم القضاء على الحكم الجمهوري وسرعان ما تولى شارل الثاني العرش، وألقي القبض على ميلتون حيث أودع السجن وحكم عليه بالاعدام ثم خفف الحكم، بعدها استطاع أحد الشعراء من انصار الملكية أن يتوسط ليطلق سراحه، يذهب الى بيته يعيش في عزلة مطلقة، فقد رأى وطنه ينهار من جديد.. وفي هذه السنوات تفرغ لإكمال ملحمته الفردوس المفقود وهو في الخمسين من عمره، ففي هذه السنوات فقد بصره وبعدها زوجته وابنه الوحيد، وبسبب هذه المآسي توقف ليسأل نفسه لماذا أصيب بكل هذه الكوارث وهو الإنسان الملتزم المؤمن بقضية شعبه، ولهذا يذهب العديد من الباحثين إلى القول أن ميلتون كتب"الفردوس المفقود"في محاولة للرد على شكوكه لحظة في إنسانيته، والتعبير عن قدرة الإنسان الكبيرة على صنع الخير.
*******

الصراع بين الساسة والدين
يجمع مؤرخو الفلسفة على أن إسبينوزا هو فيلسوف التنوير الأول، قبل أن تظهر حركة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، فهو الذي عاش قبل مئة عام من ظهور فولتير وروسو، كان قد واجه رجال الدين وسلطة الدولة في ظروف أشد صعوبة وخطورة، لقد تجرّأ إسبينوزا على نفي الطابع الخارق للمقدسات، في وقت كان فيه رجال الدين يسيطرون على أوروبا، ومع ذلك تجرّأ هذا الرجل المنبوذ من قومه، لأن يقول بوضوح بأن الكتاب المقدس له طابع تاريخي وبشري أيضاً، ويُصر على نفي المعجزات، ولا يعترف الا بما يمليه العقل على الأنسان، كل ذلك في كتاب لم يتجرأ ناشره وكاتبه على وضع اسمائهم الحقيقية عليه، كتاب مثّل ثورة في تاريخ الفكر البشري، ثورة دشنت العصور الحديثة ومهّدت لها، وقد ظهر تأثيره البارز على الفيلسوف الانكليزي جون لوك وخصوصاً في كتابه"مقال عن العقل البشري"الذي أكد فيه إيثار العقل على الوحي عند التعارض بينهما.وكان إسبينوزا قد أكد في كتابه"رسالة في اللاهوت والسياسة"الذي صدر عام 1670 إن مهمة الفيلسوف هي في محاربة ما اسماه"الخوف الخرافي"، لأنه يسلب الإنسان وجوده الحقيقي الذي يليق به في الحياة،، ولهذا يواجه إسبينوزا المؤسسات الدينية مطالباً بمجتمع إنساني حر، والدعوة الى إله حقيقي يتآلف مع المعرفة والتسامح ولايروّع أحداً، و بتقصيرالمسافة بين المتدين العاقل والفيلسوف عن طريق دين يصوغه الفلاسفة، دين يأخذ بمبادئ الأخلاق ويرى الله مرجعاً للفضيلة والإحسان، لا مرجعاً للحساب والعقاب
كان إسبينوزا في الثامنة والثلاثين من عمره عندما خاض معركته الكبيرة في تحرير العقل من الخرافات، وتحديد العلاقة بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال الحكم. ويضع إسبينوزا هدفاً أولياً لكتابه يؤكد فيه إن حرية الفكر لاتتعارض مع الإيمان الصحيح فـ"إيمان يقوم على البحث الحر خير من إيمان يقوم على العادات والتقاليد الموروثة"والغرض الثاني من الكتاب هو أن حرية التفكير شرط لتحقيق الأمن الداخلي في البلدان، فالدولة حسب مفهوم إسبينوزا تضع التشريع للأفعال لا للأقوال أو الأفكار، فللمواطن أن يعبد الله بالطريقة التي يراها تناسبه، وله الحرية في أن يتصوره كما يريد.
وفي اللاهوت والسياسة يضع إسبينوزا العقل في مرتبة متقدمة ويكفل له التحرر من كل سلطة، ونجده يخضع لحكم العقل حتى الكتب المقدسة إذ اعتبرها شبيهة بالوثائق التاريخية، وبسبب إيمانه الشديد بالعقل نجده ينكر الخوارق والمعجزات التي جاءت بالتوراة والإنجيل.. وبسبب هذه الاراء الصادمة لوحِق إسبينوزا في حياته ومماته، حيث تمّ حرق كتابة"رسالة في اللاهوت والسياسة"ومنِعت من الطبع، واضطر الناشرون أن يغيروا اسم الكتاب ومؤلفه ليعيدوا طبعه بسبب إقبال الشباب عليه، ولم يقف سخط السلطات الدينية على إسبينوزا في حياته، بل استمر بعد مماته، ففي عام 1880 اقترح أن يقام له تمثال في مدينته امستردام، فاحتج المجمع اليهودي ومعه الكنيسة على المشروع وألقى أحد رجال الدين خطبة أكد فيها إن كارثة ستصيب المدينة لو وضع التمثال بسبب غضب الله وسخطه.
لقد كان إسبينوزا يعتقد أن ليس ثمة رضا، ولا أمان دائماً في الثروة والشهرة، أو التعلق في حب أي شيء زائل، فالخير هو في تحريك العقل بالاتجاه الصحيح.
يصر إسبينوزا أن يجمع ما لاتقبل به الفلسفة، ولا يقبل بالفلسفة في مصطلح واحد هو"الخرافة"، وهو يقيم فكرة الخرافة على مبدأين أساسيين يوضحهما بقوله :"يولد البشر جميعاً جاهلين بأسباب الظواهر التي يتعاملون معها، وتحكم البشر جميعاً رغبة في البحث عن المفيد، ويخترق الحاجة المفيدة عقل قاصر يلقي بالإنسان في أوهام متعددة، منها أن البشر ليس بمقدورهم أن يديروا أمورهم وفق خطة واعية."وقد أصرّ إسبينوزا على أن الخرافة تفسد الأديان، لأن الدين ليس خرافة، قابلاً من الدين الحقيقي قيمهُ التي تعلي شأن الحياة، ونراه يصر على إرجاع الخرافة الدينية الى الجهل بقوانين الطبيعة وإلى أغراض سياسية، إذ أن كل خطاب ديني حسب رأي إسبينوزا هو خطاب سياسي، غايته الطاعة والخضوع، ويرى إسبينوزا إن الدين الذي يتأسس على الجهل والعبودية ينطوي على حالات كثيرة من التعسف والإرهاب، بسبب إصرار رجال الدين على أنهم يحتكرون الحقيقة لوحدهم، وهو يرى إن ثنائية الجهل والإرهاب الديني تمنع الفيلسوف عن التفلسف، وتقمع كل العقول الحرة التي تتطلع الى المعرفة، ولهذا يمثل الدفاع عن الفلسفة عند إسبينوزا دفاعاً عن حرية التعبير، وهو أيضاً يتحول الى إقامة دولة تنقض الخرافة بالفلسفة، وتستبدل الوعظ الديني، بتسامح المعرفة. وينتهي إسبينوزا الى أمرين ضرورين : الأول ضرورة تحرير الإنسان من سلطة رجال الدين، والثاني ضرورة تحرير الدولة من السلطة الدينية.


انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram