TOP

جريدة المدى > عام > رواية التاريخ.. جدل مصطلحي وتساؤل معرفي

رواية التاريخ.. جدل مصطلحي وتساؤل معرفي

نشر في: 2 سبتمبر, 2018: 07:16 م

د. نادية هناوي

في الندوة التي شرفني بعقدها منتدى المرأة الثقافي التابع لبرنامج اليونسكو، في قاعة بيت الحكمة يوم الخميس 9 آب 2018 احتفاء بكتابي الجديد(السرد القابض على التاريخ) وقد أكرمني عدد من النقاد بحضورهم ومساهماتهم في مجرياتها بفاعلية وروح بناءة. ولتقديري العالي لما جاد به اولئك الأساتذة الأعلام دونت ما تفضلوا به من مداخلات ومحاورات والتي كانت قيمة حقاً، لكن لكثرة المحاورين وضيق الوقت لم يتسن التفاعل معها، بيد إني وعدت بأخذها بنظر الاهتمام والتفكير الجاد المنفتح في فحصها وبحثها والاغتناء بها.

 

و( رواية التاريخ) هي أطروحة الكتاب التي تدلل على احتوائية ثقافية تتموضع في اجناسية سردية خائضة في جدلية العلاقة بين الرواية بسمتها التخييلية والتاريخ بصيغته العلمية التوثيقية.
وما كان للمصطلح أن يولد ولادة طبيعية لولا انتهاج مسارات تحفر في خفايا تلك العلاقة على وفق تحديدات نظرية وأخرى عملية وطدت اصطلاحية التسمية ودعمتها باشتغالات معرفية تصدى الكتاب لطرحها باحثا في تجلياتها.
ولم يكن أمر الخوض في هذه المسارات والمنعرجات بالأمر اليسير بسبب صعوبة الإمساك بتلابيب الراهن السردي أو بسبب تنوع مثابات الوقوف على بعض تحولاته، ولعل الناقد جيسي ماتز مؤلف كتاب( تطور الرواية الحديثة) الذي ترجمته الروائية لطفية الدليمي واحد من الذين شغلتهم هذه الراهنية وحاول التصدي لها لكن اهتمامه توزع بين جملة اشتغالات بعضها تقاني يتموصل بالابنية وبعضها فكري يتعالق بالانساق.
ومعروف أن راهننا السردي يحتاج إلى نقض الثقافة المتروبولية مع المراهنة على نجاعة الاطراف في استعادة محوريتها، لتكون ذات ثقل مادي ومعنوي فضلا عن نبذ صور الاستقطاب وما فيها من رؤى استعمارية وتصورات شمولية كي تنتزع منها استعلاءها وتبدله بثقاقة التنوع ومزياته الانفتاحية وطوابعه الاندماجية التي تقر بالتعددية الثقافية حيث لا نخب ولا أصنام كما لا استعباد لأقلية أو اضطهاد لأغلبية صامتة بتعبير المفكر سوريو.
ضمن هذه الآفاق الرحبة والمستقبلية يأتي اجتراحنا لرواية التاريخ التي فيها يتحول التاريخ من صورته علما إلى صورته مسردنا يضم حبكا لما حدث فعلا كي لا يعود كما حدث أصلا أو وهما أو تلفيقا، وهذا هو أس النظرية التاريخية المعاصرة التي جاء بها المفكر ما بعد الحداثي هايدن وايت والاسفين الذي دُق في نعش النظرية التاريخية التقليدية.
وهكذا ولد المصطلح ليكون بمثابة استخلاص موضوعي لمجموعة رؤى نظرية وتصورات اجرائية وأهم سمات هذه الرؤية عدم الارتكان على اشتغالات السرد الحداثية بتاتا، مع تجاوز مقصود لحيثياتها ومتبنياتها، بهدف الارتفاع بالمادة الفنية /السردية على حساب النزعة الارشيفية أو الوقائعية/ التاريخية.
ولكي تتم استدامة هذا الوليد احتاج ذلك منا إلى بناء رؤية نظرية هي بمثابة بناء استراتيجي يدشن الانساق المعرفية البديلة عن الأنساق التي كان قد تواضع عليها النقد الحداثي الذي هو في الاغلب نقد ذكوري مدجن بالفهم المتعالي للدغمطة النقدية وتقعيداتها الصلدة والصلبة، ومنها أن النسق لا بد أن يكون معلنا بمحاكاته أو انعكاساته جريا على قاعدة أن النوع الأدبي ذو حدود وقوالب لا يجوز التمرد عليها او التجريب فيها ليكون الروائي رهين المعتادية وأسير التقليدية وهكذا كانت الاشكال الروائية الكلاسيكية ومنها الرواية التاريخية وما جاء بعدها من الروايات الواقعية على أنواعها وروايات تيار الوعي والروايات الجديدة او التشيئية التي هي كلها نتاج مرحلة الحداثة الادبية.
ولقد تخطت روايات ما بعد الحداثة ما تقدم من خلال اتسامها بالتجريب الذي هو نقيض التنميط والمضاد للتقعيد والقاعدية وهكذا جُربت أنساق بديلة، أعلت الهامش وهرأت المركز واستحضرت الذاكرة الجمعية وغيبت الذاكرة الرسمية.
بهذا التناول الحفري حاول ( السرد القابض على التاريخ) أن يضع الأساسات التي منها وصل إلى الاجتراحية التوليدية التي تمثلت في (رواية التاريخ) وما كان أمر الاجتراح لهذا اللون من التناول النقدي لفن السرد عموما والرواية تحديدا سوى معطى من معطيات ما انشغل به النقاد الغربيون والعرب فليندا هيتشون تحدثت عن ميتا الخرافة التاريخية وهايدن وايت تحدث عن التخيل التاريخي، وقال عبد الجبار عباس بالحب المتفهم للتاريخ وسصم فاضل ثامر التاريخ بالميتاسرد..
ويظل التفريق بين التاريخ علما والتاريخ مسردنا هو معضلة النظرية. أما جعل التفريق مقترنا بكتابة الهمز على رأس حرف الإعلال (الالف) أو عدم كتابة الهمز، فأختلف فيه الباحثون العرب وقد وجد الدكتور عبد الرحمن بدوي أن الفرق يكمن في أن التأريخ بالهمزة هو ما وقع فعلا من وقائع حدثت، وأن التاريخ من دون همزة هو الكتابة عن هذا التأريخ. وفي رأينا أن الكتابة الاوتوبغرافية لا تخلو من حقيقة اقترابها من التأريخ بينما تتمظهر الكتابة الهستوغرافية مقتربة من التاريخ الذي هو مثار التحدي وموطن المغامرة والتجلي.
وعلى الرغم من أن اجتراح المصطلح بوصفه مضاداً للرواية التاريخية قد حددنا له في الكتاب موضع الرصد أطرا نظرية شرعنت عملية البلورة الاجرائية، إلا إن ترجمة المصطلح للغة الانجليزية ـ وهو ما تفضل الناقد الكبير الاستاذ فاضل ثامر بأثارته ـ ستظهر مزيات أُخر، تدعم المصطلح وتزيده رسوخا، ولتوضيح الامر أقول:
1)إن مفردة التاريخ في ( الرواية التاريخية historical novel The) ترد بصيغة الصفة، بينما ترد المفردة في(رواية التاريخ novel of history ) بصيغة الاسناد بالاضافة، لتكون مفردة (الروايةnovel ) متقدمة ومحددة بمفردة (التاريخ history ) بخلاف الصيغة الوصفية حيث الغلبة للصفة لانها هي البغية في حين تتبعها الرواية موصوفة بها وتابعة لمواصفاتها، وهذا بالضبط هو ما أرادته الرواية التاريخية التي قدمت التاريخ على الرواية وجعلت الاخيرة وسيلة للاول الذي هو البغية والمقصد والجوهر.
ولأن الصفة تتبع الموصوف لذلك يكون التوالي والتتابع والاستلحاق مقتضيات بها ينحسر الاشتغال عند منطقة التخييل بينما يتوسع الاشتغال على منطقة الوقائع ويمتد بكثافة، وهذا ما ترفضه أدبيات ما بعد الحداثة التي تناصر أي اشتغال يستبدل نمطية الاستلحاق والاستتباع بلا نمطية التجريب ولا معتادية الاستغوار من خلال استلهام ممكنات التخييل التاريخي historical concusses وإلى أبعد الحدود.
2) إذا كنا قد عهدنا إلى الاسناد تحقيقاً للسردنة التاريخية فإن ما ستفضي إليه إتباعية الصفة للموصوف هو سرد تاريخي . والأول أي ( السردنة التاريخية) هو مربط الفرس الذي انشغل هايدن وايت بالعمل عليه أكثر من خمسة عقود من القرن الماضي وعقد أو أكثر من القرن الحالي. وبحسب وايت تنزع سردنة التاريخ الادلجة من التفكير التاريخي واستنادا الى سياسات التاويل التاريخي من ناحية" الانضباط ونزع التسامي " فان هناك تاريخا تاريخي وتاريخا غير تاريخي.
وليس أمر الخوض في حاضن ثقافي عربي هو الخوض نفسه في حاضن ثقافي غربي، بسبب اختلاف أطر السرد أولا ولاننا ثانيا نفتقر الى وجود أرضية فلسفية تسمح ببناء نظرية تاريخية معاصرة على غرار النظرية الغربية لكن الخيط الذي يظل جامعا بين النقدين الغربي والعربي هو أن مقصدهما الحقيقة لا غير.
وقد نشرت جريدة العرب اللندنية مقالا بعنوان (خلخلة ثنائية الرواية والتاريخ ودمجهما في هوية سردية جديدة) في6 حزيران 2018 أشارت فيه كاتبة المقال يسرى الجنابي الى إن مصطلح ( رواية التاريخ) يخالف اقتراح عبدالله إبراهيم “التخيّل التاريخي" الذي اعترض عليه سعيد يقطين كون اقتراح ابراهيم يقضي باستبدال مفهوم نوعي بآخر بينما لا ينحاز مصطلح رواية التاريخ للشكل كما هو الحال في الرواية الميتاسردية، ولا يغلب الإطار الموضوعي كما هو شأن الرواية التاريخية والرواية الواقعية، بل هو أجناسية سردية بغيتها الأساس هي الاشتغال الشكلي والموضوعي معا، في إطار ما بعد حداثي يتبنى طروحات فلسفية معينة.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن معضلة الصناعة الاصطلاحية عندنا أكثر إشكالية منها في النقد الغربي والسبب أن الأرضيات النظرية في الغرب متاحة أمام الابتداع بحرية، ومتمشكلة بأطر فلسفية واسعة ومتنوعة بينما ينماز التقعيد العربي للمصطلح بالتضاد والتقاطع ما بين نظريات بعضها وافدة وبعضها أصيلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram