فوزي كريم
أطمع أن تكون لي قطةٌ في البيت، شقراء ولا ضرورة لفروة شعر مبالغ فيها. حين أنفرد وحدي، وكثيراً ما أنفرد، تكون هي إلى جانبي، دون حاجة للاعتراف من منا أكثر حاجة للآخر. ولكني لمْ أُقدم على استضافة واحدة، لأنها تتطلبُ رعايةً وخدماتٍ أشعر أني عاجزٌ عنها. ولكن هذا العجز لم يمنعني دائماً من أن أطمعَ أن تكون لي قطةٌ في البيت.
قال لي من ينتصر للقطة أنها متمنعةٌ بطبعها، وذات "أنا" أبية، قياساً بالكلب المفعم بنكران الذات، وبالحميمية. وبالضرورة أجدني أنتصر للكلب، وأعرف أني لا أقدر عليه هو الآخر. ولكن الحاجة إلى الدفء تجعلني استحضر القطة، حين يُسعفني الخيال. والخيال يُسعفني أيضاً في أن أتحدث معها حديثاً لا يسمعه أحدٌ سوانا. إنه أفضل، بنسبةٍ ما، من الحديث مع النفس. ألا يُقرن الحديث مع النفس بطيف من أطياف الجنون؟ أو الخرف على أقل تقدير؟
قبل فترة حدث أن أسعفني خيال الشعر مساءً، وكنت مقبلاً على طاولة العشاء. خيال الشعر يُسعفني دائماً. لا اختلاف في ذلك بين الفصول. ولكني، بطبعي الموسوس، كثير الارتياب منه. إلا إذا كنت على اطمئنان أكيد من أنه يُبعث من الذاكرة، حرَمي المقدس. ولكنه لم يكن كذلك هذه المرة، فالقطة لا تحتل ركناً من ذاكرتي. بدلها تحتل المعزى، التي كنت أتكفل برعيها في "العرصة" المُعشبة، مقابل بيتنا في "العباسية".
القصيدة اكتملت بفترة قصيرة. قطة المخيلة لم تكن مكتملة بالتأكيد. لم تكن بهيئة حيوان حي، ولم تكن رمزاً أيضاً. لم تكن تحت سطوة فهمي، أو وعيي. وهل يستوعب أحدٌ حلم النوم؟ فكيف بحلم اليقظة. أعرف أن القصيدة ليست حلماً، بل هي خلق، ينبعث من مصادر غامضة عدة في داخلي. النص الذي أُنجز لم يكن ينطوي على إيحاء حسي. بل ينطوي على فكرة، ليست مجردة تماماً. فكرة ترتبط بـ"الحكمة"، تتضح في منتصف القصيدة: " فيما مضى كنتُ أقول: حينما ينفرد الانسانْ/ بنفسه مُحدّثاً، كم تغتني حكمتُه!/ لكنني الآن أراها سمُنت في داخلي،/ من فرط ما اغتنتْ به،/ ترهّلت،/ وأصبحتْ عييّةَ اللسانْ."
أراجع القصيدة الآن، شأن أيِّ قارئ منكم. لم أفهم كيف تترهّل الحكمةُ إذا اغتنتْ. ولم أفهم الرابطَ بين هذا المحور الفكري وبين القطة التي بدت في القصيدة شاهداً، لا يخلو من لومٍ وعدم رضا. هل يبدو لك الشاعر، حين ينجز قصيدته، كمن يتورط بإنجاز مخلوق شائه يتلون تلوّن الحرباء؟ يبدو لي كذلك.
" الشعرُ عيونُ تماسيحْ./ لا تأمْنه،/ لا تأمنْ حرفاً منه!" (من قصيدة "حذر"1994).
مع قطة البيت
كنت أُعدُّ وجبة المساءْ.
أطلّتْ القطة، ثم اقتربتْ وارتقتْ المائدة،
وقرفصتْ تنظر لي بدعةٍ، ولم أكنْ أقلَّ منها دعة.
مبتسماً، قلت لها: نقتسم العشاءْ
ما بيننا؛ شريحةٌ من سمك، كأسُ من الخمرِ، وصحنُ ماءْ.
لأنني أرى الحياةَ أُلفةً، وأنتِ أولى بي من الفئرانْ.
فيما مضى كنتُ أقول: حينما ينفرد الانسانْ
بنفسه محدثاً، كم تغتني حكمتُه!
لكنني الآن أراها سمُنت في داخلي،
ترهّلتْ،
من فرط ما اغتنتْ به، وأصبحتْ عييّةَ اللسانْ.
أسألُها فتكتفي بالنظرةِ الغائمة،
حتى لتبدو نظرةً لائمة.
وبعد أن وفّى كلانا حقَّه من وجبة الطعام
أومأت القطةُ لي،
تكوّرتْ،
طوتْ ذراعيها، أراحتْ رأسَها عليهما،
واستسلمت نائمة.
18/3/2018