TOP

جريدة المدى > عام > إرادة الذاكرة..مريم الرميثي.. العطر تمثيل للجسد

إرادة الذاكرة..مريم الرميثي.. العطر تمثيل للجسد

نشر في: 3 سبتمبر, 2018: 08:47 م

ناجح المعموري

اعتنت قصة " اختباء " للقاصة مريم الرميثي بحلم طفولي ، ذهب بها نحو الشعرية الشفافة التي فتحت منفذاً للتخيّل حول أحلام الطفولة وأيامها المبكرة . حيث اللعبة ورسائلها للآخر / الأنثى ، ألعاب دائماً ما كانت قصيرة وسريعة ، لكنها تترك شفراتها وتظل عالقة بالذاكرة . لذا أنا اعتقد بأن مريم الرميثي لم تفعل أكثر من الذهاب نحو لحظة الحلم الأول والإمساك به وإعادة تدوينه سردياً . هي لعبة في الاستذكار وأيضاً في التدوين .... لكن شعرية هذه اللعبة ، باقية تمنح لحظتها تجدداً وانبعاثاً مستمراً هكذا هي مرويات الطفولة التي تجاوزت التابوهات والتقى الاثنان معاً في لعبة بريئة تماماً ، لكنها مؤطرة باستعداد للمجاورة أكثر فأكثر . لعبة تعليم الاتصال والاستعداد المبكر له ... أنها مروية أنثوية وسرد الأنثى هو الحاضر والطاغي فيها . والقصة بتفاصيلها مكتوبة بلغة نسوية ، أعطت الأنثى لحظة انطولوجية كبيرة ، لأنها تحوّلت في القصة الى مبحوث عنها ، بينما كانت هي المنشغلة بالبحث سابقاً جعلت من الذات الأنثوية مركزاً في المروية وهذا ما كشفت عنه القصة منذ استهلالها .

ـ لنفكر في شيء أخر . كأن تختبئي في الدولاب . وأنا أغمض عيني واستمع للعشرة.
ـ لا فؤاد . للعشرة كثيرة !!
ـ حسناً سأستمع للخمسة . ثم افتح عيني وأبحث عنك .
ـ لا تتأخر ....
هي الفاعلة ودلالة الابتداء باللعبة ، واعتراف بطرياركي بأن الأنثى حاضرة وذات قرار . والابتداء ملفت للانتباه ، لان الأنثى في المرويات تابعة وثانوية ، إذا لم تكن غائبة ، وحضورها مقترن بجسدها . ليس لها وظيفة واحدة ودائماً ما تعلن عنها بوسائلها الذكية ، وأحيانا عبر شفرات تعرفت عليها الذكورة .
تمظهرت قصة مريم الرميثي عن استعداد الذكر للتحوّل الى شخص ثانوي ، معني بالبحث عن غائب ، حتى ولو كان غيابه مؤقتاً ، لأن اللعبة لا تقاس بزمنها ، بل بما تنطوي عليه من دلالات وما تتمظهر عنها من رموز ومجازات .
تحوّلت شهرزاد الى عقل عارف وقوة ساردة بآلية غير الحكي الموروث . إنها تلعب واللعب مهارة كبيرة خاضعة لتصورات دقيقة في الخطط والحركة والزوغان . والتمكن من الأنفاس وكتم الأصوات . ويبدو لي بأن القاصة مريم الرميثي عارفة بالصراع الذي اختزنته الحكايات المحفوظة بالذاكرة وما زالت متداولة شواهد على زمن مضى ، ظلت فيه الأنثى موضوعاً لكل الحكايات التي تسردها للذكورة .
عاودت الأنثى في هذه القصة الاختلاف وتكريسه مع البطرياركية . ذهبت مريم الرميثي نحو جنسها ، مستعينة بالسرد بعدما كان الرجل مهيمناً على مروياتها وتمكنت من تفعيله بشبكة رمزية ، ابتكرتها القاصة لتسكن فيها " بتصرف من نيتشه ".
ولما يتمتع به من دور ، منح الكائن هوية مميزة له ، وجعلته معروفاً حتى عندما يتكرر ، عند منحه لشخص أخر ، هنا تكمن أهمية الاجتما ـ ثقافية ، لذا ركزت عليه الديانة السومرية في ميثولوجياتها ، ولعل الأبرز ملحمة الخلق والتكوين " حينما في العلى " وذهبت إليه الديانات التوحيدية " وعلم آدم الأسماء كلها " هي " دارين " وظل وحده عارياً من هوية تتستر عليه وتصونه وتجعله كائناً حاضراً في كينونة خاصة ، مثل غيره من بني البشر.
ذهبت مريم الرميثي بهدوء تام للتشارك مع الآخر من أجل تأكيد الأنا / الذات التي ظلت أزمنة طويلة خارج الخطاب الاجتماعي والثقافي المكتفي بسيادة الذكورة / الآخر ، لأنها منتجة الثقافة ، سلاح التأكيد على الاختلاف والتباين بين الطرفين . لكن الذكورة مطرودة في قصة " اختباء " وليس هناك من هو مهتم بها.
ابتدأت القصة بحوار ثنائي مركز ، تكفل تسريب الحدث السردي الذي عرفناه طويلاً وكنا نزاوله ويفقد بياضه تدريجياً .
"دارين" في القصة هي تدفع به نحو الحائط ، ليخفي عينيه من أجل لعبة ، لأن الأنثى/ شهرزاد تحتاجها ، ومن خصائصها أن تكون لعبية وجسد متحكم به عقلياً (أدرت ظهري ، وهي واضعة يديها عليه . أتقدم ووجهي مقابل الحائط . اسمع ضحكاتها الجميلة وكفاها بالكاد يدفعاني الى الحائط . كانت تضغطان بخفة . وما أن رفعت كفاها حتى استدرت الى الخلف وقبلتها ضحكت وركضت لتختبئ ويجئ صوتها " هيا فؤاد استدر وأغمض عينيك"
ابتدأت اللعبة هادئة ، بحركة نحو الحائط ، لكنها فقدت بياضها وطفولتها . لأن الحلم الكامن والذاكرة حركا معاً موروث شهريار المتحرك هادئاً نحو الجدار ، وشهرزاد تدفع مطاوعاً حركتهما وراضيا بنشوته باللمس على ظهره إنه نوع من التواصل بين الاثنين.
ليس تواصلاً ثقافياً بل تماس جسدي واتصال لمسيّ وهذه العلاقة تعمقت وامتدت بلعبة الفقدان الوهمي والبحث الهلع عن " دارين " وتحول كل هذا الى مرتكز دلالي لحيوية الأنثى ودورها في الحياة واللعبة أيضاً . ولأن الأنثى مطرودة دائماً في الثقافة ومزاحة . وهي من خلال جسدها ورقة مكشوفة ، كل كائن يتلصص ليكشف المكتوب فيها وعليها . ونجحت مريم الرميثي في مقاومة سعي فؤاد لإفراغ ما تنطوي عليه عبر جسدها من قيم ومعان ثقافية ، لانها توصلت وببساطة من خلال قبلته لها بأنه يريد ما اعتاد عليه الذكر منذ فجر التاريخ . وعلى الرغم من أنها لم تعارض ذلك ، حتى لا تفرغ نوعها من وظيفته الحياتية المانحة لها كل دلالاتها في الانبعاث والتجدد.
(وليس في طبع الثقافة الذكورية أن تتحمل أو تقبل " واقعة " الجسد المؤنث ، ومن الضروري لهذه الثقافة أن يكون التأنيث قصياً ووهمياً لكي تظل الأنوثة مجازاً ومادة للخيال . في هذه الحالة ـ فقط ـ تكون الأنوثة جذابة ومطلوبة في المخيال الثقافي. وتنتهي جاذبيتها بمجرد تحولها الى واقع محسوس)
" استدرت أمشط الغرفة ... لم تكن دارين ظاهرة ، لكن لعطرها اللطيف يد خفية ".
الاختفاء نفي طوعي ، غياب ، قطعية مع المكان ، هذا ما أدركه فؤاد لذا " مشط الغرفة " التي أخذتني نحو ما تعنيه الغرفة لدى الصينيين بأنها للنوم بدلالته الحسية . والتفتيش الدقيق نتيجة للخوف والفزع . وما حفزه أكثر على البحث وتمشيط الغرفة ، عطرها اللطيف وكأنه يد خفية (واعتبر هوبسمان العطر لغة ، احدهما يناظر الأخر . أن العطر المشهور بأصله الإلهي هو الحمية المثيرة للشهوة وهو بجفافه ، وسخونته ، وعدم قابلية .
اختصاره في الطبيعة واللغة ، القناع المتلاشي ، .... لان السلسلة العطرية (كما تسميها الكيميائية) تدخل ضمن الشهوة لا استمرارية ثملة . فهي دوار المعنى والحواس الخمس في معناها الكامل . وفي مقابل هذه اللااستمرارية العنيفة يكتب العطر ، وهو يتلاشى ، في جوف الجسد دليلاً مصطفاً لفناء مصطنع ، فالفناء المعطر هو فن للحياة . تحريف لتمثيل الفناء الحقيقي . فناء عذب ملتصق بارتعاشه اللحم . هل هناك ما يرعب أكثر من هذا ابتهاجاً كهذا القانون المتلاشي الذي يمكن أن ننسفه ، نلقفه ، نفسده ؟.
العطر حامل رسالة من الرجل الى الأنثى وبالعكس ، لكنها ـ الرسالة ـ أكثر عمقاً ودلالة يتعامل معها الرجل ، وهو ـ العطر ـ وسيط لتبادل ثقافي . لان العطر لغة كما قال هوبسمان ، أنها لغة سهلة بسيطة وغير معقدة ، ورسالته سريعة جداً ، فيها بلاغة وسحر مثير.
صار العطر الدمشقي حضوراً لها ، لكنه ليس كلياً . لذا انشغل فريد ببحث متواصل في كل محفوظات الغرفة وتفاصيلها ولم يجد أثرا لها ، لذا " أصبح الشوق إليها يتحرش بيّ ، يشاغبني وأنا الذي أود مشاغبته )
تنمو القصة بشكل جيد ويتصاعد مجالها السببي بدون أن تفقد ما توفرت عليه الحداثة ومغادرة النمطية ، والمثير في تطور هذه القصة هو أن الحوار / النداء هو الأقفال السردي لهذه القصة الذي اقترب بالمخيلة الجمعية واقترنت بالطفولة وأحلامها .
علا صوتي مردداً اسمها " دارين ...دارين "
أخبرتها أن اللعبة قد انتهت
أخبرتها عن شوقي لها .
أخبرتها أنني أحبها ولا أطيق فراقها .
أخبرتها أني لا اصدق موتها !!
" دارين " موجودة في البيت ، ولم يجدها ، لأن للعبة تفاصيلها فما دام عطرها منتشراً في الفضاء الداخلي للبيت ، فهي موجودة إذن ، لكن اللعبة ، كشفت عن علاقة عشقية بين الاثنين ولم يضيء السرد تفاصيل أخرى ، ضرورية ، ستساهم حتماً بفتح الفضاء التأويلي أكثر ، مثل عمر كل واحد منهما .... وعلى الرغم من ذلك فأنهما في مرحلة اكبر دفعتهما للدخول الى البيت والتحكم به جيداً والاحتفاظ بالمفتاح بجيب فؤاد.
أضاء كلام فؤاد الأخير نوعاً من الخوف عليها وهو لا يريد أن يصدق بأنها ماتت.
" فالثقافة تقول أن الحب جنون
والثقافة تقول أن الحب موت "

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram