TOP

جريدة المدى > عام > كتاب ((روشيرو)) وقصصه الحارقة

كتاب ((روشيرو)) وقصصه الحارقة

نشر في: 14 أغسطس, 2018: 12:00 ص

فاروق مصطفى

عندما وقعت على كتاب (روشيرو) للقاص حسين رشيد والصادر عن دار شهريار البصرة / الرافدين بيروت عام 2017 واتيت على قصصه القصيرة ، نقلتني اجواؤها المعفرة بأخبار الحروب واستغاثات المجاعات وأنين الآلام وصرخات الكبت والحرمان الى أجواء كتاب آخر يحمل عنوان (كلمات رديئة) لـ(ميثم راضي) وهو مجموعة قصائد نثرية ، ذانك الكتابان: القصصي والشعري يلتقيان وعبرهما تلفح وجهك أخبار الحروب والمفخخات في هذا المكان الذي يقطعه الرافدان الخالدان، هذا المكان الذي ينزف ويصرخ ويستغيث من تكرار الحروب وتراكم الكوارث وتكدس المحن ، كلا الكتابين يكرسان هذه المراثي المدماة لبلاد تركت وهي تطحن نفسها بآلامها وتتقوت بأوجاعها.

كتاب (روشيرو) ضمَّ ما يقارب ثمانين قصة قصيرة وأحبَّ مُنْشِئها أن يجنسها بـ(قصص قصيرة جداً) واذا كان هذا الجنس الأدبي عرف تراجعاً في السنوات الأخيرة امام طغيان الفن الروائي واغواءاته المهيمنة إلا أن هذا ظلّ يُمارس وظلّ يُطلب ويُتلقى ، وبقي بعض اسماء صِناعه تضيء خرائط القص واستمرّ الكتاب اولاء في المحافظة على يَناعةِ واخضرار شجرة القصة القصيرة ولم ينقطع الرجاء في ان تستعيد مكانتها السابقة طالما هناك كتاب مَهَرَة وطالما هناك إخلاص في تعاطيها .
بعد الاهداء العائلي الى شيراز وأنار وتقدمة الكتاب بمقولة للقاص الغواتيمالي (موتيروسو) "الكاتب لا يرغب في كتابة نصوص مختصرة موجزة ، بل انه يفضل كتابة نصوص طويلة لا نهاية لها اذ لا يحتاج فيها الى تشغيل مخيلته ..." فان القاص (حسين) يمهد لقصص كتابه بتمهيد يعد موجهاً قرائياً ثرياً او وَصيداً موطّأ يلجُ المتلقي عبره عوالم هذه القصص واضاءة هذا المكان (روشيرو) وكأنه منفصل عن تضاريس الجغرافية وما هذا (الروشيرو) (إنه حكاية من غير بداية ولا نهاية، حكاية تناوب على كتابتها الرب والزمان) وإذا لم يتشرب المرء برؤى وانفاس هذه التقدمة فانه سوف يتعثر بالقصص ويمر عليها مرور الكرام ولكن الارتواء بها يدفع المتلقي الى أن يشتبك مع فضاءات الكتاب ويشتجر بقصصه الحارقة عند ذاك تنفتح له المصاريع وتنداح الطرقات ، أعود مستعيراً من التقدمة وبلسان الكاتب (روشيرو ثلاثة مقاطع : رو ، شي، رو ) أو ستة حروف او تكون أربعة حروف ولكل حرف اسم وحكاية ومفردة تطوف في ثنايا الأوراق القادمة .
ينزل القاص قصص كتابه على أربعة منازل ، يطلق على المنزل الأول(تعال لاريك) ويضفي على المنزل الثاني (تمعنْ بتلك) ويسمي الثالث بتسمية (تحدث معك) واما الرابع فنقرأ عنوانه (تخيلْ ذلك) ونبصرُ تعاطيه لفعل الطلب في عناوين ثلاثة ولا يخفى علينا حدة فعل الامر وقوته ولفت نظرنا بشدة وعنف .
نقرأ القصص ونحس حرارتها ولظاها وكأن القاص شواها بنيران معاناته وتنفتح الابواب بأنين لفحها ونستعير جرأته فنقتحم معه كل هذه التابوهات المشيدة ، ونقرأ قصة (شقتان) التي دهشنا بمفارقتها واقتحام المحارم والابواب الموصدة ، وهي مرثاة الانسان الضائع الذي فقد عمله واضاع حبه وادمن الشرب ويفاجئنا بخاتمة القصة وانتهاء البطل الذي حقق في اخر مطافه حلم استعادة رجولته .
وفي القصة المعنونة بـ(مخلوق) تحمل جواً مؤسطراً ، حكاية الراوي صاحب القلب المعلم مع الجنية والشريرات الأربعة ، الجنية التي تريد أن تدعو كل البشر الى ذواقِه وجمال القصة في ادهاشها وخرقها للمألوف ونحن في انتظار هذا المخلوق الذي يخرج من بين يدي عروس البحر.
ومع قصة (اجهاض) ينقلنا الكاتب الى تأمل سطور كتاب الطبيعة ويسرد علينا " منذ ايام عديدة تغير الحال ، وظل ثابتاً على شكل التغيير ، فنصف الارض مضاءٌ بنور الشمس والنصف الاخر معتم بشكل تام والغريب في الامر ان النصف المضاء هو الذي يشكو من قلة شروق الشمس " الكل في حيرة وذهول يتساءل عن سبب توقف الأرض، الشمس حائرة والقمر مستغرب، ونحن تتقمصنا الحيرة ويلبسنا الذهول نريد ان نعرف ما الذي جرى لنواميس كوكبنا فلهذا نستعجل خاتمة القصة .
حفلة القصص تستمر ومعها ندعى الى (حفلة) وهي عنوان قصة تفترش الصفحة الثالثة والعشرين وهنا يكثف القاص (رشيد) اجواءه الكابوسية ، عالم الموتى وقسوة الشتاء ولياليه السليبة النجوم ووحشة القبور واستقبال الجنائز الجديدة والمفخخات التي تمشي في اثر العراقيين وهم يشيعون اعزاءهم الموتى الى مثواهم الاخير ، فضاء حلمي دامٍ حتى النخاع .
ومع انتقالنا الى قصة (أين؟) نجده يوظف مهاراته اللغوية باللعب بألفاظ الضمائر واسماء الاشارة للقريب والبعيد والأبعد ثم يتركها تشتبك ببعضها البعض ، إنه النبأ العظيم الذي يرويه، النبأ الذي يتحدثون عنه ، الجثث تكثر وتتلون بلون الشمس ويرتسم اسم الاستفهام للمكان عالياً أين هو؟ وأين انت؟ وتستوقفنا قصته المعنونة بـ(عصافير) العنوان يتناص مع عنوان للكاتب السوري (ياسين رفاعية) الذي حمل اسم (العصافير) وكذلك تقنية القصة تذكرنا بقصة (الشيخ زعبلاوي) لنجيب محفوظ وبالرغم من اختلاف الاجواء في القصتين ، شخصيتنا هنا تعاني من وجع الممنوعات يذهب الى الحلاق فيمتنع عن حلاقة ذقنه يذهب الى حانوت الخمار فيراه وقد نسف يتردد الى المقهى يكتشف ممنوع لعب الدومينو انها رحلة في الممنوعات واخيراً يستيقظ البطل على نسف محله الذي يتعاطى بيع الطيور ، وكذلك بطل نجيب محفوظ يبحث عن (الشيخ زعبلاوي) حتى يجد شفاءه على يديه فينتقل من مكان الى اخر بحثاً عنه وعندما يغفو في المقهى ويستيقظ يقال له ان الشيخ كان هنا إلا انه غادر ، وأقر أن ثيمتي القصتين مختلفتان ولكنهما تتفقان في هذا البحث وذاك الدوران .
يعنون (حسين رشيد) إحدى قصص كتابه بـ(ادغار) وهو (ادغار ألان بو) الكاتب الامريكي (1809- 1849) وهو صاحب القصص الخارقة والاجواء المرعبة التي تثير القشعريرة، وقيل عنه بأنه في قصصه أطلق الخيال من عقاله يلتقي به ملوحاً بيده (شاتماً على الطريقة العراقية) ويفكر لماذا جاءته صورة الكاتب الامريكي وهو جالس في مجلس عزاء المرحوم الذي اغتيل لقاء حفنة من الاوراق الخضراء إنه ادغار هبط من فضاءات كتابه (مغامرات وأسرار) حضر الى مشاهد الارتعاب ليكون شاهداً على ما يجري من مشاهد الخطف والموت والتهجير .
في المنزل الثاني الذي قضت فيه قصص كاتبنا الذي عنونها (تمعنْ بذلك) تستمر اجواؤها المرعبة والمشاهد المثيرة للألم الإنساني، ويمهد الكاتب لذلك بلغته المجازية طوراً ، وطوراً اخر يلجأ الى وسائل الطرفة وأسلوب السخرية ، المهم إنه ينجح في ذلك لأنه يظل في جذب متلقيه الى عوالمه التي يقيمها ويرسم خرائطها عبر هذه القصص المتتالية ثم يعمد في منزليه الثالث والرابع الى تقانات يستحدثها ويبتكرها فبين تقانة (ثلاثيات) ومنزله الرابع المكنوز بمشاهد قصصية تتدلى منها قصص دنيوية وبعدها تتوالى القصص الأخروية ، يحتاج الناظر فيها الوقوف مطولاً عند ضفافها ثم الغوص في متنها الجواني وقنص معانيها واقتناص دلالاتها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: درجة الحرارة الصغرى في بغداد غدا الإثنين صفر مئوية

نتنياهو: جاهزون لاستئناف القتال في غزة "بأي لحظة"

تشكيلة منتخب قدامى العراق للقاء البحرين

محافظة عراقية تعطل المدارس غداً وتقلص الدوام ساعة واحدة

وزارة الصحة تحيل (6) مكاتب علمية لدعاية الأدوية إلى القضاء

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

محمد جبير: اهتمامي بالرواية هو بسبب الحبّ الصافي لعروس الأجناس الأدبية

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة
عام

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

د. نادية هناوي جددت المدرسة الانجلو أمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات أو اتجاهات كعلوم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram