نجم والي
عن طريق يومياته هذه التي استعرضنا البعض منها في الأعمدة السابقة، لا يثبت أندرسن نفسه، بأنه كاتب خيالي من الطراز الأول وحسب، بل أنه كاتب رحلات بنظرات ثاقبة وحساسة، منبهراً وقف أمام المدينة الهائلة القسطنطينية، اسطنبول الأتراك، إنه يكتب متعجباً، بدون انحياز وبشيء من المرح والرومانسية. وهو على حق، عندما يتأكد له بعد رحلة العودة إلى بلاده، بأنه وحتى ذلك الحين لم يوجد كتاب يعطي صورة حقيقية عن اليونان، وعما رآه في الشرق، لأن رحلته تظل مختلفة عن بقية الرحلات، وما رآه خاص به وحده، لا يستطيع كاتب آخر أن يرضيه أبداً، سواء صح ما يقوله أم لا، فهو ذهب إلى الشرق، وإلى القسطنطينية بالذات، ليس لكي يبحث عن وحي جديد لأساطيره وقصصه الخرافية، فهو كان بدأ بكتابة هذا النوع أصلاً وهو صغير، بل وأصدر قبل الرحلة بسنتين كتابه «صور من ألف ليلة وليلة» قصص مستوحاة من ألف ليلة وليلة. كلا، أندرسن ذهب، وهذا ما نقرأه في كل كلمة كتبها في يومياته وهو يعبر عن دهشته، من أجل الشروع برحلة إلى سنوات طفولته، لأن والده كان قد قرأ أمامه وهو صغير قصصاً من كتاب «ألف ليلة وليلة». بالنسبة له، يبدأ الشرق عند القسطنطينية، إذا لا تجسد هذه المدينة بالنسبة له بكل ما حوته من أبهة وفخامة وتاريخ، الشرق بحد ذاته؟
وإذا كان يصعب الحديث عن تأثير رحلته هذه على كتاباته اللاحقة، إذ كان من غير الواضح بالنسبة للعديد من المختصين بأدب أندرسن إذا كانت هذه الرحلة أثرت على كتاباته أم لا، فبعد عودته من الرحلة مباشرة، كتب أندرسن «ابن البط القبيح»، و«ملكة الجليد» و«راعي الخنازير»، وقراءة متمعنة لهذه الأعمال، ترينا، أن أندرسن قد غير أسلوبه الادبي في القص بعض الشيء، وحسب طريقة أندرسن المعتادة باعتماد موضوعة الأسطورية الشعبية تستعين الحكاية الأخيرة «راعي الخنازير» بأسلوب الحكاية التقليدي، بينما الأخريتان، الأولى والثانية، هما حكايتان جديدتان، أصليتان. صحيح أنه من غير المعلوم، إلى أي مدى أثرت هذه الرحلة على كتاباته هذه، كما يقول المختصون بأدب أندرسن، إلا أن من الممكن القول، إن هذه الرحلة إن لم تكن أثرت على حياته الشخصية، على رؤيته للعالم وعلى أدبه، فإنها على الأقل أكدت له، أن الطريق الذي اختطه لنفسه بكتابة الأدب الخيالي والأساطير، هو الطريق الصحيح، حماسه بكتابة الحكايات الخرافية والأساطير وغزارته في الإنتاج بعد عودته، هما خير دليل.
كان وقت المساء، وكانت الشمس قد غابت للتو، لكن النجوم متلألئة في الهواء الجنوبي، والقمر بدا مشعاً، وكل المنارات حملت بأكاليل من اللمبات، الكبرى باثنين، والأكبر بثلاث. الأضواء أكثر بهاءً طبعاً في منارات آيا صوفيا، والجامع الآخر الضخم، كل المدينة مضاءة بسبب عيد المولد النبوي، حتى فوهات مدافع السفن الحربية التركية كانت مضاءة، مكللة باللمبات، المساء كان رائقاً، كما كانت المدينة كلها أسطورة/ خرافة.
اهتمام أندرسن بالشرق تجلى أولاً بإصداره مخطوطات نثرية بعنوان، «كتاب مصور بدون صور» مستوحى من ألف ليلة وليلة، بعد أن كان قد أصدر قبل ذلك بضعة أعمال روائية ومسرحية، كما كان أصدر مجموعة من القصص الخرافية أهمها «حورية البحر الصغير» التي يعدها الخبراء بأدبه، بأنها نقطة انطلاقته الفنية، إلا أن ولعه بالشرق الذي كان بالنسبة له وكما سنعرف من قراءة يومياته أثناء رحلته التي سيقوم بها إليه، جعله يتوق إلى تحقيق حلمه بزيارته، خاصة وأننا سنعرف من خلال تلك اليوميات أيضاً، أن صاحب «ابن البط القبيح»، كان يشعر في قرارة نفسه، بأنه أكثر ميلاً للعيش في الشرق منه إلى العيش في عالمه، «العالم الألماني الدانماركي الممل»، وكأن الكاتب الاستثنائي هذا، كان قد تنبأ مسبقاً، أن رحلته إلى الشرق، ستشكل بالفعل علامة فارقة، وتحولاً كبيراً في حياته الأدبية والشخصية.