ياسين طه حافظ
هذه الظاهرة صادفتني أول مرة في لندن سنة 1992 حين رأيت اثنين من السود يزيحان إعلانات للجبهة القومية National Front ويلصقان مناهضات. ومع إن المسألة لا تتم إلا بانتهاء زمن الإعلان وأن لابد من دفع Pay للجديد، لكن يبدو أن ذلك حصراً بالاعلانات التجارية أو أن تصرف هذين من باب الخروج على العرف أو القانون. إنه فعل من أفعال الحماسة على أية حال. وشهدت مثله مرةً أخرى في New Cross ويبدو من الحركة المضادة نفسها ولا عجب فمنطقة نيوكروس منطقة سود وعمال والناشنل فرونت ضد وجودهم الملون في بريطانيا المفروض بها أن تكون بيضاء ...
وفي بلادنا شهدنا الكثير من هذا وباشكال مؤسفة وفوضوية زمن الانتخابات. فقد مزقت لافتات وشوهت صور مما لا يدل على مجرد فعل تنافسي بل هو صراع انتماءات أو صراع ثقافات. وجدنا للظاهرة امتدادات وتطبيقات في أجهزة التواصل الاجتماعي وقد وصل الأمر وسيصل الى الاشتباك بالايدي في التجمعات الرسمية كما حصل مرّات في البرلمان.
هي حركة باتجاهين، اتجاه رافض للثقافات القديمة أو الأفكار القديمةأ "المشاريع" وآخر رافض للجديدة وما يتصل بها. نرتكب خطأ إذا رأيناها تصرفات فردية. فثمة ما يماثلها في التواصل وفي الشارع والمقهى والحانة أحياناً . إذاً هناك "مَدد" يغذيها ومراكز توجيه. وما أولائك الذين يدلون بتصريحات تثير الخصوم أو تؤجج الظرف أو تربك قناعات الناس وثقتهم إلا بعضاً من ذلك. وما نشهده في الفضائيات من وجوه تكاد تعمل باتفاق، إلا موالين يعملون تحت الطلب وفي المناسبات. وكل فضائية لها قائمة اسماء واتصال تعتمد أصحابها كلٌ في حقله وبمدى سلاطته أو شدة خصومته للخصم وآخرين بمدى تحبيذهم وتوددهم أو تكسبهم. معنى كلامي إن شبكات الإعلام لها من تدفع لهم في المناسبات. وعبارة صرح مسؤول لم يكشف عن اسمه، ستارة وأسلوب لإشاعة خبر أو رأي أو للتمهيد لما بعد أو لجس نبض أو هو بذرة أولى لحدث قادم! وليست الأساليب هنا واحدة . فمنها مانشيتات ومنها نكات وتصريحات تهكمية وأحياناً، وهذا غير مرئي للكثيرين، خصومات سياسية مصطنعة لتمرير مسألة أو إثارتها أو للتغطية عليها.
فلم يعد الإعلام صناعة خبر يذاع أو ينشر حسب. ولا مقالات مدفوعة الثمن يدبجها كتَبَة في الصحف. الإعلام الحي، الايجابي والسلبي، يعمل في الشارع ويتجاوز الوسائل التقليدية الى الاعتماد على الوسائل البديلة. ومن يتصدى لذلك عليه أن يتسلح بالمال ويوظف الكتاب المحترفين ويقيم نشاطات ومناسبات تبدو بعيدة لكنها للاستدراج وفرصة "للتكريم" أو في الأقل لكسب الود وإسماع الوعود ..
هي حرب معلومات وقرصنات أجهزة تواصل وبيع وشراء. صفقات تعقد كما في أي سوق وأن موهتها لياقات رسمية. المهمة بإيجاز هي أن تُفسِد ثقافة خصمك ثم تزكي وتدعو لثقافتك أو للثقافة التي وظفت لإشاعتها.
منهجية إعلامية مثل هذه، لا تحترم كثيراً القيم السليمة. هي حرب سياسية ذات مكون تجاري نفعي. الايديولوجيا هنا تعمل جيداً. والكسب المادي و "الموقعي" يعمل والانتهازية وتمارين التسلق واردة ويستفاد منها جميعاً. فلايهم بعد هذا أن يستعان بالثقافة الخطأ او المتخلفة او الرجعية المحلية "العريقة" لتوسيع مدى السخرية من الخصم واثارة التهكم والتسخيف باللجوء الى الشارع ضد الاكاديمية والمؤسساتية الحديثة. عمل خصومة الآن وعمل تخريبي غداً.
اتجاه مثل هذا لا يستثني وسيلة، من الأغاني الى النكات الى الأشعار الهابطة الى المسرح الشعبي، وبخاصة مسرح الشارع او الحدائق العامة.
أذكر في الثمانينيات كانت تعرض مسرحية من تلفزيون بغداد – نعفّ عن ذكر اسم الفرقة – مضمونها أن ناساً شعبيين يعبثون برجل قادم من الخارج فيجرونه من رباطه ويجمعون الملاعق والشوكات ويرمونها ويبدأون الأكل بالأيدي ويظهرونه أضحوكة رخواً فتنتصر عليه روح المحلة او روح الشعب، كما يفهمون روح الشعب- هي عندهم لا المتطلعة الى المستقبل، لا التواقة الى التغيير. لا التي تنتظر يوماً يرتدي فيه الناس ثياباً انيقة يتمتعون بالليقات المدنية وروح العصر ... ، هم يريدون التي ترمي الملاعق وتأكل بالايدي ويتباهون بالتخلف. وفي تلكم السنتين شهدنا تكراراً ملفتاً لتلك المسرحية.
هذه السخرية بالجديد أو بالتحضر وبالاناقة والنظافة قد لا يكون وراءها رضا رسمي ولكن عدم انتباه، إذ تبعدهم النكات والطرافة عن الاثر الابعد. لكنها بالتأكيد تعبر عن نزوع محلي محافظ أو رجعي يؤكد على العادات القديمة ويتصدى للجديد (الطارئ)! السخرية الظاهرة وروح النكتة لا تغيران من الحقيقة ورائهما. قد لا يكون خُطِّط فكريا لها ولكنها تعبر عن مضمر وعن قديم يدافع عن نفسه و يزدري الجديد.
والآن أسأل : لماذا لم نشهد ثقافة شعبية مناهضة للقديم أو للنزعة الاستهلاكية ومن خلال صحافة حرة قوية أو وطنية متمكنة مادياً أو "مدعومة" ؟ على العكس تماماً، الثقافة الرجعية والمتخلفة هي التي تملك المال والفضائيات وهي التي "تدفع" جيداً وتشتري المثقفين. وهم يتوالون بازدياد عليها وان صحب خطواتهم الاولى الحياء و اعقبت الاعذار. لا نلوم احداً، الناس تريد أن تعيش في مجتمع استهلاكي لا يرحم، ولكننا بصدد رصد الظاهرة. ذلك لا ينفي تمنينا أن تكون لنا ظواهر ثقافية ايجابية بديل تلك التي أشرنا إليها. فهي بديل هذه الضارة لا بالاقتصاد الوطني ولكن بمستقبل البلد. وهي بالتأكيد ضد التقدم. والا لِمَ لا يكون يومٌ باسم يوم الشعب لكل الاقليات تحتفل به معاً بوجودها المشترك وعملها من أجل مستقبل البلاد؟ أو يوم "عدم الشراء" للتوعية ضد النزوع الاستهلاكي المدمر لاقتصاد البلاد ولحرف روح الشعب عما هو جوهري ومهم؟ أو، وكما كان لنا يوم: يوم النظافة ويوم الشجرة وآخر كأن يكون يوم الحدائق؟ الجميع يعرفون أهمية هذه المفردات لبلد مثل بلدنا في مستواه الحضاري الذي نعرفه وبحاجته للوعي الصحي والتثقيف المدني. مثلما يعلم الجميع بظاهرة تشويش الثقافة المتبادل بين المذاهب الدينية والسياسية والحركات الاجتماعية. ويعلمون كم تطورت اساليب التشويش وآلياته في تشويه المشاهد والصور لغرض الفضح والتنكيل او السخرية وتقليل الشأن. ولا يفوتنا طبعاً دور اجهزة التواصل وعموم استعمالات الانترنت وسواها عبر التجارة او العمل السياسي، الجنس ضمناً، وهو عمل يهدف لأغراض شتى تجارية، سياسية عامة وشخصية ، ولا يفوتنا أن لبعض منه له فعل اجتماعي لكسر التابوهات من ناحية وخلخلة الثوابت الاجتماعية. وهذا نفع تشظى من ضرر كثير ...
ما يخشى من هذه النشاطات، هو استغلال الرغبات الكامنة او المقموعة، لا لتحرر الانسان وخلاصه تبعات التخلف ولكن لمشاريع تجعلها من بعد اكثر ثباتاً. هي ترسخ ما سيكون ضرره مؤذياً. ومما يخشى هو استغلال الثقافات القومية والمحلية واخلاء الطريق منها تماماً بعد وصول الهدف لتظل من بعد ذكريات وحنين الى الماضي. وهذه، اعني الثقافات المحلية هي أصلاً لها هذان الوجهان: الوطني و الوجه الذي يسند التخلف ويعرقل التقدم. هذا هو ما أفاد منه الخارج ووظفه كثيراً وبنجاح. أظن هذه المسألة دقيقة وتحتاج الى درس متريث ..
نحن أيضاً، وأن ملْنا الى التقدم والتغيير، لا نستطيع ضمان الإيجابية الدائمة لتمردات الافراد ضد الثقافة العامة والتي هي ايضا تأسست على مصالح وطنية واحتياج انساني. لهذا تظل الحاجة دائماً الى بحوث علمية تحدد أولويات الجماهير واهتماماتهم، شرط الا يسمح بقطع المدد الثقافي الحديث أو يوقف تخصيب وتغذية الآفاق الجديدة للحياة. فتشويش الثقافات كما يمكن أن يكون له فعل ايجابي في التغيير والتطور، له أيضاً جوانب تخريبية مادمنا لا نملك تماماً زمام القيادة واختيار النشر والتوصيل . فضيلة أو سيئة، هما متاحان للجميع !