طالب عبد العزيز
ليس من شأنه التقليل من أهمية التظاهرات ولا من قدسية الدماء، التي اريقت على الصعيد المالح، لكن، ما يحدث في البصرة من تحريق هو جناية الاحزاب الحاكمة، الاحزاب الاسلامية لا غيرها، التي أسست لكل الخراب هذا، عبر منظمومة فاسدة وغبية، تستجيب لنداء الخارج ولا تصغي لنداء الشارع الذي ظل هادئاً ، إعتمدت العمق الايراني ضامنا لوجودها، والدعم الاميركي سنداً حال وقوعها، غير متحسبة لحرائق الجماهير التي جاءت من حديقة استغفاله.
توضح المقاطع الصوتية والمرئية التي تنقلها المواقع طبيعة الصراع بين السلطة والمتظاهر، فقد بات من الواضح أن المتظاهرين قللوا من مطالبتهم بالماء الحلو وذهبوا الى المطالبة بالتغيير السياسي، وما حرق مبنى المحافظة إلا الشكل الأخير في التعبير عن ذلك. تحرق المبنى يعني أنك ترفض أنْ تقاد منه، وأن يُستهتر بحياتك من داخله، وأن تُحرم من فرص العمل في جميع الوثائق المركونة طي أدراجه.
ومع أن متوالية الحرق ثقافة عدوانية، عربية بامتياز، تتجلى أكثر عراقياً، وهي قبل ذلك ثقافة غزو وحروب تاريخية، كانت تمارسها الجيوش الغازية، تؤكدها وتبرر لها مدونات تاريخنا العربي الاسلامي، ويتعلمها طلابنا بوصفها ميزة النصر ودالة في القوة على الآخر الكافر، لذا، نجد أن التظاهرات الشعبية في العراق، منذ ربيع العام 2003 والى الرابع من ايلول 2018 دأبت على الحرق، في فهم مؤسف، مفاده أنَّ ما تملكه الدولة هو الهدف في كل تغيير ومغنم لتعويض ما أخذه السلطان.
وبغض النظر عمن قام بالحرق، حيث لا تخلو تظاهرة في العالم من الغرباء المندسين، لكن لماذا الحرق، من هذا الذي يدفع باتجاهه ؟ ألم تكن هناك وسيلة أخرى؟ بتقديرنا أن قضية الثأر والانتقام بـ (الحرق) يماثل ما يقوم به بعض رجال العشائر المسلحة في نزاعاتهم، حيث يقوم الفريق المعتدى عليه (المتظاهرون) بإطلاق الرصاص على بيت المعتدي (الحكومة) الذي تجاهل طلب الآخر في الجلوس والاستجابة لمطالبه، بوصفه الجهة المعتدية، ففي يقين المتظاهر أن الحكومة هنا معتدية على حقوقه، لكنها لا تصغي لنداءاته (زهدته) بالتعبير العشائري، وأن المهلة (العطوة 15 س) التي اعطاها المتظاهرون للحكومة انتهت، وما عليهم إلا(الدكة)وهكذا، هبَّ رجال العشائر(المتظاهرون) لكن بقناني المولوتوف هذه المرة، مرجئين الكلاشنكوف الى وقت آخر. الثقافة العشائرية هذه، هي جناية أخرى من جنايات الحكومة على شعبها، فهي التي أسست للنمط الجائر من المقارعة بعد أن عطلت القانون وأفسدت منظومة القضاء.
لا أسوق هذه جزافاً، ولا للتقليل من شأن الهدف المرجو، إنما أتحدث عن الآلية، حيث أن غالبية المتظاهرين لمّا يتعلموا بعد ثقافة التظاهر السلمي، ضمن الأطر المتعارف عليها لدى شعوب الديمقراطيات العريقة، وما يقومون به إنما هي آلية انسحبت عليهم من امتلاكهم للسلاح وتجارب الحروب التي خاضوها مع داعش والنزاعات العشائرية، يغذيها الاحساس بالقوة داخل وجودهم بين الجماعة ، وتمنحنا الصور والمقاطع الفيديوية الكثير من ذلك، وسط القلة المدركة لما تفعل. ولا يستثنى من ذلك جنود السلطات الأمنية، فهم لا يخرجون عن الوصف هذا، إذ أنَّ جلهم من أبناء العشائر تلك، التي يتظاهر أبناؤها أمامهم، فقد ذهبوا لقتال داعش، في مناطق من العراق وسوريا، أيضاً، وشاركوا في نزاعات عشائرهم المسلحة، يعزز من ذلك كله أن الجميع( متظاهرين ورجال أمن) تمزقت هويتهم الوطنية لصالح الهويات الأخر، وهكذا، نجد أنَّ إختراقهم كان سهلاً على الفاسدين والمندسين معاً، هناك لغة مشتركة توحد الجميع لكنْ، يتقاطع الجميع معها أيضاً.