ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأول
تعدّ موضوعة الثقافتين : العلمية والأدبية واحدة من الموضوعات الجوهرية التي ألقت بظلالها على مجمل التطور الإنسانيّ وبخاصة بعد عصر التنوير والأنسنة الأوروبية ، وتفاقمت مفاعيل هذه الموضوعة بعد عصر الثورة الصناعية (بأطوارها المختلفة) وتعاظم دور العلم وتمظهراته التقنية في الحياة البشرية وتغلغله في قلب السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة .
إنّ الحديث عن ثقافتين متمايزتين : ثقافة علمية وثقافة أدبية هو بعض حديث الزمن الذي مضى جارفاً معه الكثير من مخلّفات الأفكار المتكلّسة التي رسخت طويلاً في العقول ، وممّا لاشكّ فيه أنّ الممارسات التعليمية والأعراف المجتمعية السائدة رسّخت كثيراً من تلك الأفكار عبر تقسيم التخصصات الثانوية المدرسية إلى فروع علمية وأدبية ؛ بل مضى العقل المتكلّس لوسم الدراسات الأدبية بأنها خليقة بكلّ من أوتي حظاً كبيراً من القدرة على الحفظ واستظهار المعلومات !! وأنّ الدراسات العلمية مصمّمة لهؤلاء الذين يأنسون للفهم التحليلي والقدرة الرياضياتية المميزة . إنّ هذه المواضعات ماهي إلا أباطيل شائعة ، وترى الدراسات الخاصة بسايكولوجيا الإبداع البشريّ أنّ الإبداع في كلّ أشكاله ينبع من منبع واحد هو الشغف ، وأنّ التمايزات النوعية بين شكل الإبداع الموصوف بالأدبيّ بالمقارنة مع نظيره العلميّ ليست سوى أقنعة تخفي وراءها المنبع الذي يتدفّق منه الشغف والرغبة في إثراء المعرفة البشرية .
يسود توجّه عالمي منذ عقود عديدة لإلغاء التمايزات الكيفية - فضلاً عن الشكلية - بين الثقافة العلمية والأدبية ، ونرى معالم هذا التوجّه في تنويع مقرّرات الدراسة ماقبل الجامعية والجامعية وجعلها تشتمل على باقة منوّعة إختيارية من اللغات والفلسفة والدراسات الاجتماعية (أنثروبولوجيا ، سوسيولوجيا ، تأريخ العلم وفلسفته ،،،، إلى جانب المقررات التخصصية . إلى جانب هذا ثمة جانب براغماتي يستوجب المعرفة والإطلاع على مجالات معرفية متعددة ؛ إذ أنّ المعضلات المتفاقمة التي باتت كارثية بالنسبة إلى البشرية تتطلّب معرفة معقولة بمسبباتها وطرق معالجتها (أو التخفيف منها على الأقلّ) ، وكما نعرف فإنّ الفهم يسبق الفعل ؛ وعلى هذا الأساس فإنّ الإلمام بتأثيرات الإحترار المتفاقم في جوّ الأرض ، مثلاً ، يدفع المرء للإطلاع على الوسائل الكفيلة بالحدّ من هذا الإحترار من خلال تفعيل السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية والهيدروجينية .
الثقافة البشرية هي ثقافة واحدة بمظاهر مختلفة إذن ، أمّا أتباع الثقافتين فلن يكون لهم نصيب في المشهد الثقافي العالمي بعد اليوم .
* * *
ثمة معلمٌ تأريخي مفصليّ في هذا الميدان ينسّبُ إلى محاضرة ريد التي ألقاها اللورد ( تشارلس بيرسي سنو ) في جامعة كامبردج عام 1959 ، ثمّ أعيد نشرها عام 1963 بعد إضافة ملحق لها بعنوان (الثقافتان ونظرة ثانية) ، ومنذ ذلك الحين برهنت هذه المحاضرة كونها إنعطافة ثورية عظيمة في تأريخ السياسات الثقافية حتى بات مصطلح (الثقافتان) من أكثر المصطلحات رسوخاً وتأثيراً على المستوى العالمي .
يسرّني في الفقرات التالية ترجمة الجزء الأول فحسب من هذه المحاضرة التي نٌشرت في مجلّة المواجهة Encounter في عدد يونيو ( حزيران ) عام 1959 تحت عنوان ( الثقافتان والثورة العلمية ) ، وقد مهّدتُ لهذه الترجمة بتقديم وافٍ عن شخصية اللورد سنو إكمالاً للفائدة المرتجاة .
المترجمة
الكاتب - العالم - الروائي
تشارلس بيرسي سنو
تشارلس بيرسي سنو Charles Percy Snow : الابن الثاني بين أبناء أربعة لويليام إدوارد سنو و آدا صوفيا ( المولودة لآل ) روبنسون ، ولِد في 15 أكتوبر ( تشرين أول ) 1905 في بلدة ليستر الواقعة في قلب المقاطعات الوسطى ( المدلاند ) الإنكليزية . يمثل التأريخ العائلي لآل سنو من الذكور الأطوار الأساسية لتطوّر إنكلترا الصناعية الحديثة : الجدّ الأكبر ، جون سنو ، ولِد في منطقة ديفون الريفية عام 1801 ، وبرغم أنه قضى حياته أمياً يجهل القراءة والكتابة - بحسب الأخبار المسجّلة عنه - فقد هاجر خلال الثورة الصناعية الأولى لمنطقة برمنغهام حيث عمل في تركيب المكائن ، أما الجد ، ويليام هنري سنو ، فقد كان شخصية فكتورية مميزة ذات سمات راديكالية ( متطرفة ) ؛ إذ لم يركن لواقع الحال وعمل على تعليم نفسه ليرتقي إلى مكانة المهندس المسؤول عن صيانة خطوط الترام في ليستر وقد أشرف بالفعل على عملية إستبدال خطوط العربات التي تجرها الأحصنة بتلك العاملة بالطاقة الكهربائية ، وعاش حتى عام 1916 مُجسّداً لأحفاده الأكبر سناً قيم الإعتماد على الذات والفضائل الرفيعة الصارمة لعصر بطولي ( لطالما أشار سنو لجدّه هذا بعبارات مقرونة بإمارات الإعجاب في غير موضع من كتاباته ومحاضراته) . الأب ، ويليام إدوارد سنو ، كانت له ميول موسيقية قوية : كان يعزف على الأرغن الكنسي في الكنيسة المحلية لبلدته وصار لاحقاً عضواً مشاركاً ثم زميلاً في الكلية الملكية لعازفي
الأرغن - وتلك حقيقة كانت مبعث فخار له ولعائلته دوماً ؛ غير أن الموسيقى لوحدها لايسعها أن تؤمّن له دخلاً لائقاً ممّا تطلّب منه العمل كموظّف في معمل لصناعة الأحذية في بلدة ليستر . حصل خلال مرحلة الترتيب الطبقي للتراتبيات الإجتماعية الإنكليزية المعقدة أن حامت عائلة سنو حول جانب اليمين المحافظ من تلك الفجوة المتعاظمة بين طبقة أدنى الوسط - والتي ستغدو عمّا قريب طبقة أنيقة تحوز الكثير من صفات النبالة الإنكليزية المعهودة - وبين الطبقة الإنكليزية العليا المرموقة ، أما من الناحية المالية فقد كانت ظروف عائلة سنو مخلخلة ومضطربة حتى بانت أقرب لحال المشتغلين بأعمال البناء ، والمشتغلين في المخازن ، والأجراء العاملين في مزارع تسمين الحيوانات المعدّة للذبح ، وقد شغل هؤلاء جميعهم أماكن للعيش بدت أقرب إلى مصاطب واطئة النوعية مرتبة الواحدة فوق الأخرى ؛ لكن منزل عائلة سنو كان بعيداً بعض الشيء عن منازل هؤلاء ، واعتاد سنو الأب أن يقدّم دروساً مأجورة للبيانو في الردهة الخلفية للمنزل ، كما حرص على إرسال أطفاله إلى مدرسة خاصة صغيرة بدل إرسالهم إلى المدرسة المحلية . كان سنو - الإبن - في كلّ مراحل حياته عارفاً بكلّ دقائق التمايزات الإجتماعية المترتبة على الترتيب الطبقي ، وقد قادته تلك المعرفة الدقيقة إلى نمط من الإنشغال المسبّق والمفرط بهذه الأمور مع كلّ النتائج التي ترتّبت عليها والتي كان مقدّراً لها أن تترك بصماتها على كتاباته .
إتّبع تشارلس سنو (الذي كان يُعرَفُ لدى عائلته باسم بيرسي حتى زواجه عام 1950 من الروائية باميلا هانسفورد جونسون) المسار الكلاسيكي الذي لطالما سار عليه الأذكياء ؛ فكان صبياً مولعاً بالكتب من غير إيلاء أي إهتمام يذكر بالفعاليات الإجتماعية وماتجود به من تسليات ، وغدت المكتبة العامة المحلية بمثابة نقطة شروع له لولوج عالم خيالي لاحدود لتخومه ، ومنذ عمر الحادية عشرة راح يلقى التشجيع على صعيد طموحاته الفكرية والثقافية والرياضية في مدرسة آلدرمان نيوتن في بلدة ليستر - تلك المدرسة الإعدادية المحلية المتواضعة التي تأسّست في القرن الثامن عشر . كانت مدرسة آلدرمان نيوتن أبعد ماتكون عن التميز الأكاديمي الرفيع ، ولم يكن باستطاعة أحد في وقت يفاعة سنو أن يدخل الجامعة مباشرة بعد إنهائه الدراسة في المدرسة الإعدادية ، وقد تجلّت سمعة هذه المدرسة في تركيزها على دراسة العلوم بدلاً من الموضوعات التقليدية الأكثر وجاهة في الكلاسيكيات والإنسانيات ، وهكذا صار العلم هو الميدان الذي تركّزت جهود سنو في دراسته ماقبل الجامعية ، وبرغم أنّ سنو ميّز نفسه بقدرات إستثنائية فائقة فقد كان ثمة فجوات في السلّم التعليمي الذي توجّب عليه تسلّقه بلا هوادة : أكمل سنو وبنجاح كبير إمتحان العلوم عام 1923 ؛ ولكن برغم ذلك كان عليه الإنتظار لسنتين متتاليتين قبل المباشرة بدراسته الجامعية ، ووافق خلال هذه الفترة على العمل بمرتب بائس كمساعد مختبر في إحدى المدارس ،وفي الوقت ذاته كان يثري عقله بتجارب متنوعة من القراءات الكثيرة التي أتيحت أمامه وبخاصة في حقل الرواية الأوربية في القرن التاسع عشر . إنضمّ سنو عام 1925 طالباً في قسم الكيمياء والفيزياء في كلية ليستر الجامعية المؤسسة حديثاً والقريبة من منزل العائلة ، وكانت تلك الكلية واحدة من المراكز التعليمية الجامعية المحلية الصغيرة للتعليم العالي يمكنها منح شهادة جامعية مكافئة لشهادة جامعة لندن . حصل سنو على المرتبة الأولى في الكيمياء عام 1927 ثم اعقبها بشهادة الماجستير في العلوم عام 1928 ، وكان سنو حينذاك شاباً يافعاً عظيم الطموح عمل باجتهاد غير مسبوق في سنته الجامعية الأخيرة حتى كاد أن يتسبّب لنفسه بانهيار جسدي شامل ! لكنه حقّق النجاح الذي سعى إليه في نهاية المطاف والذي يكفل له إنجاز الخطوة الحاسمة التي ستفتح له أبواب عالم أوسع وستجعله يفوز في نهاية الأمر بالمُنَح الدراسية التي أهّلته لدخول كلية المسيح ( كرايست ) في جامعة كامبردج طالباً للدكتوراه Ph. D في أكتوبر (تشرين أول) عام 1928 .
بدأ سنو أبحاثه الجامعية في حقل التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء في مختبر كافندش الشهير الذي كان يديره اللورد رذرفورد Lord Rutherford ، وسرعان ماشهدت أبحاثه إزدهاراً ملموساً ، وانتُخِب في عام 1930 ، وهو بعمر الخامسة والعشرين ، زميلاً في كلية المسيح ( بجامعة كامبردج ) ، وهي مكانة ظلّ محتفظاً بها حتى عام 1945 .
(يتبع)