ستار كاووش
ترى هل فكَّرَ اسماعيل فتاح الترك، وهو يمد أصابعه وينحت تمثال أبو نؤاس، إن أصابع ذات التمثال، سوف تقتلع بقسوة وتباع كبرونز مستعمل؟ هل خطر في ذهن الفنان العظيم، بأن جزءاً مهماً من عمله الجميل الذي أحبه كثيراً، سوف يُبتَرُ ويضيع وسط ضياع الأخلاق والحقوق؟ حيث لا ضمان لإبداعات البلد، ولا ميثاق للحفاظ على موروثه الثقافي، ولا وازع أخلاقي يحث الناس للتمتع بالجمال، بدلاً من الإطاحة به. ترى أين وصلت ثقافة الشارع عندنا؟ كيف بلغت هذا الحد، وهي تطمس التفاصيل الجميلة للبلد؟أتخيلُ الجاني عند غروب الشمس، وهو يقطع أصابع التمثال بيديه، وبعدها بقليل يرفع ذات اليدين أثناء الصلاة، داعياً الله كي يغفر له ذنوبه ويكافئه على أعماله الحسنة!
هناك بلدان تحتفي بعمل فني يمثل الأصبع فقط، كما حدث مع عمل النحات الفرنسي سيزار، الذي نحت إصبع الابهام بشكل كبير ومدهش. يقابلُ ذلك بلداناً، تُقلَعُ فيها أصابع التماثيل دون أن يرف جفن لمن يقوم بذلك العمل البدائي السافر. الكثير من مدن العالم المتحضرة طلبت نسخاً من إصبع سيزار، كي تضعها في ساحاتها وحدائقها. نحن لا يهمنا طبعاً أن نختار أو نبحث عن أعمال مهمة كعمل سيزار، نزين بها البلد، بل أمعَنّا في حشر تماثيل ونصب قبيحة وخالية من أية لمسات جمالية، في زوايا البلد وساحاته، ولم نكتفِ بذلك، بل مضينا قدماً في إذلال أعمالنا الفنية الجميلة التي هدمنا بعضها، وطمسنا معالم بعضها الآخر، دون مبالاة، والشواهد هنا كثيرة ولا تحتاج الى إيضاح. ومن لم يهتم لتمثال السعدون حين سرق بأكمله وبيع في سوق الخردة، فهو بالتأكيد لن يكترث ليد ابو نؤاس المقطوعة!
حين فرغ جواد سليم من نحت يَدَيَّ فائق حسن (يديه فقط)، تساءل الكثيرون عن نحته لليدين بدلاً من وجه فائق، عندها قال جواد، إن هاتين اليدين عبقريتين، وهذه الأصابع هي من تصنع الجمال. وعندما انتهى مايكل انجلو من تمثاله العظيم (موسى) وقف أمام هذه المعجزة التي بدت مكتملة ومن الصعب تكرارها، لِيُثَبِّتَ وجهه أمام وجه التمثال الذي اقترب من الكمال وقال له (إنطق ياموسى)، ولأن التمثال لا ينطق حتى وإن كان من صنع مايكل انجلو نفسه، لذلك أمسك صاحب (الشَفَقَة) بمطرقته وضرب التمثال على ركبته وخلف عليها أثراً، كي يبقى العمل غير مكتمل، ويظل هو باحثاً عن التحدي في أعماله القادمة. يبدو أن الناس عندنا ليسوا بحاجة لقول انطق، ولا يحاورون التماثيل بطريقة جمالية كما فعل مايكل انجلو، بل هم على الأرجح يتساءلون، كم ثمن هذا الأصبع، وكم يساوي هذا الكف البرونزي وهم يتوجهون نحو سوق الخردة.
يعتبر عمل أبو نؤاس، أجمل وأعذب تمثال أنجزه اسماعيل الترك، فيه ترف ساحر في المعالجة وبساطة في التنفيذ والتعبير، حيث يبدو الشاعر العباسي بوجه مسترخٍ يميل الى الشحوب، جالساً وكأنه يُحَدِّثُ مجموعة من ندمائه، وتنتشر الزخارف على ملابسه وتمتد أيضاً الى قدح الشراب الذي يمسكه بيده. حين ننظر الى هيئة التمثال وجلسته الودودة، ثم نتابع التكوين وانسيابية طيات الملابس، نرى كيف نفَّذه الترك بطريقة سهلة وناعمة ومرنة، طريقة عكست روح الشاعر بشكل ممتع وجميل. ولا أغالي حين أقول بأنّه أجمل تمثال عراقي يمثل شخصية معروفة.
ضحك الكثير من أصدقائي، حين قلت ذات مرة بأني خائف على نصب الحرية. وأتمنى أن لا يستمروا بضحكاتهم الآن، وأنا أكرر خوفي من جديد. نعم، فبلد يمتلك كل هذه (الحرية) في التعامل مع الأ عمال الفنية، أخاف فيه حتى على نصب الحرية.