شاكر لعيبي
عند التوقّف أمام مفهوم الصلافة اليوم، نتعرف على معنى القساوة والصلابة فيه، فأنت تقرأ أن المفردة تعني التكبّر والعجرفة. لكنها في الأصل مرتبطة باستخدام الظرف بفجاجةٍ. الصلافة حسب لسان العرب، هي "مُجاوَزَةُ القَدْر في الظَّرْف والبراعة والادِّعاءُ فوق ذلك تكبّراً". وهذا هو معناها الجوهريّ: صَلِفَ صَلَفاً فهو صَلِفٌ وقد تَصَلَّفَ والأَنثى صَلِفةٌ، وقيل هو مُوَلَّد. وشرح ابن الأَثير القول (آفةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ) إنه الغُلُوّ في الظَّرْف والزِّيادةُ على المِقْدار مع تكبّر.
لكننا ننتقل فجأة من هذه الدلالة إلى (المرأة الصلفة) وهنا لا علاقة للأمر بفكرة (الإدعاء تكبُراً)، فإن صَلِفَتِ المرأَةُ صَلَفاً فهي صَلِفَةٌ يعني أنها لم تَحْظَ عند قَيِّمها وزوجها، قال القُطامِيُّ وذكر امرأَة (لها رَوْضَةٌ في القَلْبِ لم تَرْعَ مِثْلَها - فَرُوكٌ ولا المُسْتَعْبِراتُ الصلائِفُ) وروي ولا المُسْتعبَراتُ، بل أن قولهم أَصلَفَ الرَّجلُ أي صَلِفَتِ امرأَتُه فلم تَحْظَ عنده وأَصْلَفَها وصَلَفَها يَصْلِفُها فهو صَلِفٌ أَبغضها. قال مُدْرِكُ بن حُصَيْنٍ الأَسَدي (غَدَتْ ناقَتي من عِنْد سَعْدٍ - كأَنَّها مُطَلّقةٌ كانت حَلِيلةَ مُصْلِفِ). وفي الحديث (لو أَن امرأَة لا تَتَصَنَّعُ لزوجها صَلِفَتْ عنده) أَي ثَقُلَتْ عليه ولم تَحْظ عنده ووَلاّها صَلِيفَ عُنُقِه أَي جانبَه. وفي حديث عائشة (تَنْطَلِقُ إحداكُنَّ فتُصانِعُ بمالِها عن ابْنَتِها الحَظِيّةِ ولو صانَعَتْ عن الصَّلِفةِ كانت أَحَقَّ). ومن أَمثالهم في التمسك بالدِّين وذكره ابن الأَثير بصفته حديثاً (من يَبْغِ في الدين يَصْلَفْ) أَي لا يَحْظَ عند الناس ولا يُرْزَق منهم المَحَبةَ. وأَنشد ابن السكيت (مُطْلقاً مَنْ يَبْغِ في الدّين يَصْلَفْ).
وجوار ذلك، ثمة تحوُّل فرعيّ للفعل صلف نفسه، تحوُّل جنسيّ: يقال للمرأَة أَصْلَفَ اللّه رُفْغَكِ أَي بَغَّضَكِ إلى زَوْجِكِ. والرَّفْغُ والرُّفْغُ أُصُولُ الفَخِذيْنِ من باطن، وهما ما اكْتَنَفَا أَعالي جانِبَي العانةِ عند مُلْتَقَى أَعالي بَواطِنِ الفخذين وأَعلى البطن. فالقول للمرأة (أَصْلَفَ اللّه رُفْغَكِ) يعني جَعَلَ الله عضوكِ كريهاً عند زوجك.
حسناً هذا تحوّل جذريّ، ما زال واقعاً على نحو ما في الدلالة العامة للقساوة والصلابة، لكن تعال انظر إلى التحوّلات الجديدة الأخرى:
طعامٌ صَلِفٌ: مَسِيخُ لا طَعْم فيه.
والصَّلَفُ: قلة نَزَلِ الطعام وطَعامٌ صَلِفٌ وصَلِيفٌ: قليل النَّزَل والرِّيْعِ، وقيل هو الذي لا طَعْمَ له، وقالوا (من يَبْغِ في الدينِ يصلف) أَي يقل نَزَلُه فيه.
وإناء صَلِفٌ: قليل الأَخذ من الماء. إناء صَلِفٌ: خالٍ لا يأْخذ من الماء شيئاً.
وسَحابٌ صَلِفٌ: لا ماء فيه، سحاب صَلِفٌ قليل الماء كثير الرَّعْد، وقد صَلِفَ صَلَفاً وفي المثل في الواجِدِ وهو بخيل مع جِدَتِه (رُبَّ صَلِفٍ تَحْتَ الرَّاعِدةِ) وقيل يُضْرَبُ مثلاً للرجل الذي يُكْثِر الكلام والمَدْحَ لنفسه ولا خير عنده، و(الصَّلَفُ قلة النَّزَلِ والخير) أَرادوا أَن هذا مع كثرة ماله مع المنع كالغَمامة كثيرة الرعد مع قلة مطرها، وفي الصحاح يُضرب مثلاً للرجل يَتَوَعَّدُ ثم لا يقومُ به، وذكره ابن الأَثير حديثاً. وقال هو مثل لمن يكثر قول ما لا يفعل أَي تحتَ سَحاب يرْعَدُ ولا يَمْطُرُ. وتَصَلَّفَ الرجل قَلَّ خيره. قالوا (أَصْلَفُ من ثَلْجٍ في ماء ومن ملحٍ في ماء).
والصَّلَفُ: قلةُ الخير .
والصلِف: الإناء الصغير، والصَّلِفُ: الإناء السائلُ الذي لا يكاد يُمْسِكُ الماء.
وأَرض صَلِفةٌ: لا نَبات فيها.
والصَّلْفاء: المَكان الغَلِيظُ الجَلَدُ، وهي الأَرض التي لا تُنْبِتُ شيئاً.
ها نحن هنا نتحوّل من الصلب إلى السائل وبالعكس. وقبل ذلك نتحوّل من المجازيّ (المرأة الصلفة)، والاستعارة الجنسيّة (أَصْلَفَ اللّه رُفْغَكِ) إلى الشعريّ الضيّق (إناء صَلِفٌ) و(سحاب صَلِف).
أن المعاني تتراكب، الواحد فوق الأخر، الأخير لا ينفي ما قبله ولكنه يتوسّع فيه، يكْبر ويعْرض حتى يغيب تقريباً المعنى الحقيقيّ الأول، وينقذف في دلالة أقرب للشعرية مما هي إلى شيء آخر.