اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الرسام والجنة

باليت المدى: الرسام والجنة

نشر في: 22 سبتمبر, 2018: 06:16 م

 ستار كاووش

عادة ما يغادر الفنانون المناطق الريفية، ويستبدلون جمالها وهدوءها بأجواء المدن الصاخبة والمزدحمة، وهم يحلمون بتحقيق حضور إبداعي يليق بمواهبهم وأحلامهم الفنية وطموحاتهم، وينتظرون أن يسلط عليهم ضوء الشهرة، بعد عرض أعمالهم في القاعات المعروفة. لكن هناك دائماً من يسبح عكس التيار، ويسير بطريق لم يتوقعها أحد، يمضي خلاف الناس، ليمسي الخيار الأكثر جنوناً لديه، هو الخيار الصحيح، ويصبح الباب الموصد الذي لا يفتحه أحد، هو الباب المناسب.
هكذا وبكل بساطة، ترك الرسام حسين الركابي أضواء بغداد وحضورها الكبير والمؤثر وذهب لعيش وسط كوخ بناه في منطقة زراعية على أطراف مدينة الناصرية. هناك في أعماق الريف، استقر هذا الرسام حيث الكوخ الذي بناه بنفسه، وهو محاط بحياة بسيطة وجدران طينية علّق عليها أعماله الزيتية التي رسمها في ذات المكان. بضع ساعات كافية للرسم، ليقوم بعدها بالزراعة والاعتناء بالحقل، والاهتمام بدواجنه التي تشغل المكان بحركتها، ثم رعاية أغنامه التي تتجول في المزرعة التي يحتضنها الهدوء والضوء والسكينة، وتقابلها سماء زرقاء صافية تمتد بعيداً لتتماهى مع خط الأفق.
عرف هذا الفنان كيف يتصالح مع نفسه وهو يختار عزلته، ليستبدل دخان المدينة بغيمة بيضاء أليفة تستقر فوق كوخه البسيط وتظلل حقله الأخضر، عزلة تمنحه حرية التفكير واتخاذ بعض القرارات الضرورية التي تتعلق بحياته وفنه وأيامه القادمة. يتطلع هذا الرسام كل صباح من كوة الكوخ، يقف صامتاً ومبتسماً وهو يتأمل المكان الذي اختاره، فلا يجد الضجيج والصخب الذي اجتاح حياة المدينة، بل يرى سيقان النباتات الخضراء الطرية التي تملأ المكان، وثمة نخلة طويلة باسقة وسط الحقل، تحاول أن تتلمس الفضاء وهي تنتصب مثل فنار للحراسة. هنا ليس ثمة شوارع تحرسها نقاط التفتيش، بل بضع خطوات تفصل الكوخ عن الحقل الذي بدأ يكبر ويعلو. ولا ضرورة لصاحب غاليري يفرض على الرسام شروطه القاسية، بل تنتظره جدران الكوخ الحانية التي شيدها بيديه، فتحتضن أعماله بدفء الطين الممزوج بالقش، ولا حاجة لمكان مخصص للرسم، فالضوء كافٍ وأرض الحقل واسعة، وكل شيء مهيأ ليقف رسامنا وسط هذا الهدوء الأخضر، بمحاذاة ساقية ودودة ليرسم لوحاته كما فعل قبله فنسنت فان غوخ وبول غوغان وهما يبحثان عن ضوء الطبيعة. فقد غادر غوغان أضواء وثقافة باريس، وأدار ظهره للمدنية ومضى بكل عناد ودون تردد الى جزيرة تاهيتي، ليجد هناك جنته المفقودة وعالمه المثالي الذي يبحث عنه، حيث رسم هناك أعظم أعماله على الاطلاق وهو يتطلع الى وجوه النساء اللواتي يشبهن زهوراً برية لم تمسها يد بستاني بعد. كذلك يذكرني حسين بالرسامة الهولندية كلوديا يونغسترا التي تصنع أعمالها الفنية من صوف الأغنام التي تربيها في مزرعتها، وتحصل على الألوان من خلال بعض النباتات التي تزرعها لهذا الغرض، فانعزلت ووظفت ما لديها من منتوجات المزرعة، لتقدم أعمالاً فنية تتسابق عليها الآن المتاحف وقاعات العرض.
أتذكر هؤلاء وأنا أتابع بشغف تجربة رسامنا حسين الركابي الذي شَدَّ رحاله نحو الريف، حيث الحياة التي تحرسها السكينة والانسجام والعزلة، لينتج أعماله الجميلة. لا تربطه بالمدينة سوى جادة بدائية غير معبدة، لكن أفكاره وطموحاته هي التي عَبَّدَتْ له طريق الاستمرار والإبداع، يقود ذلك موهبته الأكيدة وحبه للرسم. نعم، لقد اختار حسين مكانه المألوف الذي يحبه وينتمي اليه ليجعله وطناً، وتمضي حياته بطمأنينة تشبه شخصيته الهادئة، وتنعكس على نمط حياته وهو يمسك عصاه مثل راهب، يتبعه كلبه (فدعوس) الذي يشاركه ذات المكان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram