TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > بابلو نيرودا: الأيام الأخيرة!

بابلو نيرودا: الأيام الأخيرة!

نشر في: 23 إبريل, 2010: 04:52 م

فرناندو أليغيرياترجمة سحر أحمدأجدُ من الصعوبة أن أكتب عن بابلو نيرودا لأبدد حزناً خاصاً, أو أزيح ثقلاً شديداً عن القلب. وأخشى أن أثير حزن القارئ, لكنني أعلل النفس بأنه يتفهم صعوبة الأمر, وعسى أن لا يجد في كلامي مجرد حدادٍ على الميت, بل رؤية لمعركة فريدة, يخرج فيها الموت خاسراً.
منذ أيامٍ خلت, في مدينة سانتا برباره المشمسة التي تعصف بها رياح البحر, شاركتُ في حفل العزاء الجميل الذي أقيم لتأبين نيرودا. ترأس الحفل الأستاذ كينيث ريكسروت, الذي تحدث بصوتٍ هادئ جليل, فكان يناغم كلماته مع هدير البحر, وعزف الجوق الموسيقي الصغير, الذي كانت أنغامه تتفجر صعوداً ونزولاً كلما هبت الريح. فكرت بما سأقوله لهذا الجمع من الطلاب والأساتذة الذي سحرته الأنغام في شعر نيرودا, وارتوى من شعوره الفياض لشيلي, وحبه العميق لماتيلدا. قلت ببساطة أن نيرودا حاضرٌ بيننا. أراه باسماً, هادئاً في سيره, أو محلقاً أحياناً, يصغي إلى الريح والكلمات, إلى صرخة النورس العالية. ينظر إلى ذاك المتسابق هناك, يعدو بسرواله القصير في نهاية المضمار. يتوقفُ قليلاً لينظر إلينا مذعوراً, ويمضي في سبيله. إنها الحقيقة, فنيرودا مثل ذاك الميت في قصيدة الشاعر فاييخو لم يمت حقاً. سيموتُ معنا, في كل حركة من حركات عصرنا, موتاً شاملاً, عميقاً ذا دلالةٍ واضحة. سيموت أولاً هنا, ثم هناك, ثم في الأبعد. سيموت في نفسي, ثم في الآخرين رجالاً ونساء, من دون إيقاعٍ واضح, ولكن مع إيقاع الفصول, والبحر, والنجوم, والشجر الذي ينمو بكل هذه الأشياء ويكبر, يستريح من حياته, يتنفس أخيراً كلَّ الأجواء, وكل الأتربة, وكل الأزمان. تلك هي عناصر موته.لذا, أريد قبل أن يطول بنا الوقت, أن أسجل بعض الملاحظات عن الصديق الذي أحببته, والشاعر الشجاع الذي واجه أخيراً حقيقةَ موته مسربلاً كعادته ببساطةٍ وصعوبةٍ ساحرتين. والمهم بالنسبة إليَّ أن نيرودا أستطاع في موته السريع أن يغير حقيقة الموت إلى فعلٍ مضاد في غاية الروعة والرهافة, إلى تلميحٍ وجرأةٍ واستحياءٍ ووجعٍ وسكينة. ودليلي على ذلك مزدوجٌ, أولهُ القصائد العشر التي نشرها نيرودا في مجلة "الأزمة", في آب 1973. وثانيه اللقاءات بيننا في آب 1972 , وأيلول 1973. تلك الأيام التي كنت أراه فيها يسافر من باريس إلى نيويورك, ومن نيويورك إلى سانتياغو وجزيرة العبد, ثم يعودُ إلى سانتياغو, تلك الرحلة من الإبتسام إلى قناع الموت.* * *أول ما تجدر الإشارة إليه ترتيب تلك القصائد. يبدأ نيرودا بقصيدة "تكافلات", وينتهي بقصيدة "أغنية حب". يُرسل إلى رئيس تحرير المجلة ملاحظاته بطبع القصيدتين بحروف مائلة. هكذا صادقَت على شهادة وفاة نيرودا اثنتان من قصائد الحب, وكأنهما الميدالية التي يصادق وجهاها, الصورةُ والظل, على الحياة ويؤكدانها. والثاني أننا كنا في نيويورك, وكانت معنا زوجته ماتيلدا, كذلك زوجتي كارمين. كنا نسكن غرفتين متجاورتين في الفندق, وكنت أعرف أن نيرودا مصابٌ بمرضٍ عضال كان قد عُولج منه في باريس, لكنه يرفض الحديث عنه, غير أن حالته الصحية واضحة تكشفها بعض التفاصيل الثانوية. كنا نأكل ونشرب بخبرةٍ منحنا إياها وطننا الأصيل, وبشراهةٍ لالتهام الدنيا بأفعالٍ عنيفةٍ وصامتة. وكانت ماتيلدا تُعنى بزوجها برقة, لكن بحزم.سرعان ما صرنا نعتني به جميعاً, وجاءت خاتمة ذاك الرجل الذي قال مرةً: "ما زالت هناك خطوةٌ ," في مقصف الفندق. لم يقل شيئاً. حدث فصلٌ مريع في عيادة الأسنان, بعدها استأجرنا سيارةً وذهبنا لشراء المحار. انتهى النقاش نهاية غير متوقعة. يشيخُ المرءُ, طبعاً يشيخ. لا حاجة لتذكيره بذلك. نظرة من أحدهم كافية, كلمة أو إيماءة. قال نيرودا: "يبدأ الموتُ بالساقين." تبادلنا النظرات. كلانا يعرف أن مثل هذا الموت لا يبدأ من الساق. لا أدري تماماً لماذا إدّعى نيرودا لاحقاً في جزيرة العبد أنه يعاني من روماتيزم سقيم يلتصق بساقيه كالضباب, ومن دون أن يلمح إلى المرض المستعصي الذي كان يزحف على عموده الفقري وينخر فيه. في صباح الأحد التاسع من أيلول, نصحته ديليا دومنغويث قائلة أن هذا الروماتيزم سيختفي بقدوم شمس أيلول, فأجاب نيرودا بأن الشمس القادمة ستحرقه, وأنه لن يرَ شمس هذا الربيع.أمسك نيرودا كالرجل الحكيم بالمحارات الرائعة, ولم يبدُ أنه يلتقطها, فكانت تلتصق بأصابعه حين يقلبها ليتفحصها ويقربها من أذنه. يزنها في يده, فتصبح نجوماً وكهوفاً وسماوات وأشواكاً وأجراس وآذان وشفاهاً. يختارها ويصنفها بدقة, ثم يسقط في الكأس قطعةً بحرية أثارت فضوله, ويعيد البقية إلى صندوق الكارتون المبطن بالقطن.ثالثاً : كنا في صالة الفندق ننتظر قدوم الناشر الأمريكي. رفع نيرودا الكأس عالياً وكأنها حبة بصلٍ شفافة, وقال إنه لا يشرب المارتيني إلاّ في الولايات المتحدة, لأن الأمر لا يكون لائقاً في بلدٍ آخر غيرها. جلسنا ونظرنا إلى السم الفضي الرائق الزعاف في ظل الأضواء التي تنشرها المصابيح القديمة والستائر الحمر. جمدت رؤوسنا, وأصبحت صدورنا كالصفيح. تنفسنا بصعوبة, ونظرة سريعة على أفواهنا تدل على أننا أصبحنا تنيناتٍ تتجشأ لهباً صافياً, لكنه سرعان ما ينطفئ. ألقى نيرودا كلمةً في نا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram