TOP

جريدة المدى > عام > إرادة الذاكرة..الحياة ما لم نعشه بعد

إرادة الذاكرة..الحياة ما لم نعشه بعد

نشر في: 24 سبتمبر, 2018: 07:02 م

ناجح المعموري

اختلفت سياسة النشر الخاصة بمؤسسة المدى عن غيرها من دور النشر المعروفة في الوطن العربي وينطبق الأمر أيضاً على محاولات دور النشر لرسم ملامح خاصة بها ، لتميزها عن غيرها من الدور الأخرى .

والملاحظات الخاصة بدار المدى كثيرة ، لكني اعتقد بأن أهم العناصر المكونة للشخصية الثقافية الخاصة هي اهتمامها بمنشورات متميزة عن سير الأدباء والفنانين وهي كثيرة ومعروفة وما أصدرته في هذا العام هو وجه ، سيرة سيمون دوفوار وسارتر بالإضافة الى " أتغير " سيرة ليف أولمان وأيضاً يوميات الشاعر والقاص الايطالي تشيزاري بافيزي وبعنوان مهنة العيش / يوميات منذ 1935/1950 ، ترجمة الاستاذ عباس المفرجي وهذا الشاعر المهم غير معروف على نطاق واسع في الوسط الثقافي وعلى الرغم امتداد يومياته على تاريخ طويل فأنها استطاعت أن تقدم صورة واضحة عن حياة هذا المبدع الكبير وأهم الملاحظات هي بافيزي لم يقصد بيومياته أن تكون معلومة للجميع من خلال نشرها ، لأنه سجل دقائق حياته وعلاقته مع المحيط المجتمعي وصداقاته وموقفه من الحياة الثقافية والأدبية ، كما كان واعياً لتفاصيل تجربته الشعرية .
وسجل تجوهراته النقدية المصاحبة لكل ما كتب ونشر ، من هنا نستطيع التعامل معه بوصفه الناقد الأول لتجربة أبداعية متميزة ومهمة بتنوعاتها ، فهو شاعر وروائي وناقد ومترجم درس الأدب الانكليزي وتخرج بأطروحة عن والت ويتمان وابتدأ في عام 1930 بكتابة مقالاته النقدية التي استوعبت ملاحظاته الفنية حول ما صدر واطلع عليه آنذاك بين الملاحظات المهمة حول شخصية بافيزي ، موقفه الوطني المعادي للفاشية . صدر له العديد من الدواوين والروايات وحاز على جائزة خاصة عن روايته " الصيف الجميل " وهي أهم جائزة في ايطاليا يوميات بافيزي غير مخصصة للنشر أو الاطلاع الآخرين هذا ما خطط بافيزي له ويتضح هذا من خلال عدد من اليوميات المشطوبة وأخرى مبهمة وكأنها مدونات لغزية وغير واضحة تماماً . لكن المثير في هذه اليوميات تكرر أشاراته لموضوعية الاتحاد والإشارة للموت والإحساس باليأس والإحباط من فشل علاقاته مع النساء .
تتكرر موضوعة الانتماء ، كلما تدهورت حالته النفسية والاجتماعية والتي دائماً ما تكون فاعلة ومؤثرة على وعيه النقدي وتعطيل ملاحظاته الفنية حول ما اطلع عليه من شعر وسرديات ومثال ذلك ملاحظته عن التكرر في تجربة هوميروس عندما قال " سأله أخرى مثيرة للاهتمام عند هوميروس من الألقاب والمقاطع الشعرية المتكررة ، كل شيء ، إذن ، يشكل في كل حالة عصباً غنائياً لقيمة لا تقبل الجدل ، ويكون ذلك في كل مرة مكرراً بالتطابق ، أو على هذا النحو تقريباً ...
في الختام طريقة واحدة لنوال الوحدة هي تكرار صيغة غنائية
بافيزي ، شاعر مرهف وحساس ، موجود ، حاضر ، غائب وفرد ضائع ، ثنائياته ملفته للانتباه والشعور بالامتلاء ، لكنه ــ بافيزي ــ متكرر وهذا ما يلمسه القارئ من خلال يومياته المركزة جداً ، الذاهبة نحو الاختصار وكأنه يكتب نصاً شعرياً وفعلاً تقرأ الكثير من اليوميات باعتبارها نصاً شعرياً . وتبدّى لي بأن الشاعر مهووس بالتكرر ، ربما يومئ عبر ذلك لنمطية حياته . لكنه لم يغفل كلياً ما ينطوي عليه من قيم ومعان وأيضا دلالات ، لذا ذهب ليؤكد بأن التكرار هو الذي يكرس الوحدة . ويكشف لنا هذا الرأي الخاص لوحدة تأكيده على ما يعانيه الفرد بعزلته وإحساسه بالغربة والهامشية في الحياة ، من هنا تكرست يوميات عن الفرد وقد تضمنت تصويراً دقيقاً عن المصاعب التي تعايش معها ، لأنها مفروضة عليه وأشار بوضوح الى ( أن الذهن في كل جلائه يسعى الى " الوحدة " للتأليف بالهام ، لكن ببراعة أساسية ، تدمج الأجزاء المتنوعة معاً لتشكل قصيدة ) والشاعر مندفع نحو تصورات تتمظهر عن نوع احتجاجي واضح عبر أشاراته الكثيرة ، والمتكررة لموضوعة الانتماء ( المدمرّ لذاته هو قبل كل شيء ، شخص فكه جداً وسيدّ ... المدمر لنفسه يعيش في خطر دائم ، من انه ذات يوم سيتفاجأ بنوية من إبداع شيء ما أو وضع كل شيء في نظام ملائم ، حينذاك سعاني على نحو لا ينقطع وحتى يمكن أن يقتل نفسه ... فكر ملياً بهذه النقطة ، هذه الأيام ، الانتحار هو مجرد وسيلة للاحتفاء ، ينفذ بجين بهدوء ، وبتردد .... هل سيعود يوماً انتحار متفائل الى العالم ثانية ؟ ص71//
لا يستطيع المتلقي تجاهل التشوش في يومياته وحضور الاضطراب وأيضا الارتباك ، حتى شكلت هذه الظواهر سمة بارزة في مدوناته اليومية التي تتخذ في أحيان عديدة شكلاً شعرياً . وتتخذ الانتحار تمركزاً ، وحده كاف لإضاءة حياة بافيزي والمعاناة الإنسانية القاسية والقهر والملاحقة من قبل السلطة لأنه من المعادين للفاشية . وظلت حياته مقوضة ، مدمرة ( أسوأ شيء يفعله الرجل ذو النوازع الانتحارية هو عدم قتل نفسه ، بل التفكير بالانتحار دون فعله . لا شيء أكثر إذلالاً من حالة التفسخ الأخلاقي التي تقود إليه فكرة ــ اعتياد فكرة ــالانتحار . فالمسؤولية ، الوعي قوة العقل ، كلها تطوف بلا هدف في ذاك الحر الميت ، مغمورة بالمياه أو غائمة على السطح ثانية ، لعبة بيد التيار / ص91//
من يقرأ يوميات بافيزي وقصائده الشعرية ، يتوصل سريعاً الى العزلة والوحدة التي عاشها واستثمرها بنصوصه الشعرية حتى علامة الحب يديه ـ كما قال جون تايلور ــ سريعة الزوال ، وموصوفة بدقة في أبيات قاسية لان الشاعر كان معذباً سلفاً ، في بداية العلاقة ، بحتمية الخسران " أنا وحيد ، وسأكون وحيداً أبداً . وقال في يومية أخرى " من السخف أن تبحث عن الغيرية في عاطفة مؤلفة بالكامل من كبرياء وشهوانية . وفي اليوم التالي يضيف : أبدا بكتابة الشعر عندما تكون اللعبة خاسرة ، لكن الشعر لم يعرف عنه أبدا تغيير الأشياء .
الملمح الفني المتمركز بنائياً فيما توفر لنا من نصوصه الشعرية وسردياته ، تأكد بأن الشاعر بافيزي ميزته التجربة الشخصية المكونة من عنصري السرد والشعر ، من هنا نستطيع أن نقول عنه وهو يكتب الشعر ، كان يقص علينا ، موظفاً الشعر ليمنحه طاقة السرد وهيمنة الشعرية فيه ، بحيث يتمكن السرد من قيادة النص الشعري والتحكم به مثلما هو واضح في هذا النص : تغضن الريح أوراق الشجر الساكنة
فوق الغيوم الحمراء دافئة تتحرك ببطء
تحت ، يظهر كل شارد في الزقاق ، يتشمم
الجسد الملقى على الحصى المرصوف وأنين ذو حيف
يتصاعد وسط المداخن : احد ما سيقيّ / ص27//
حافظ الأستاذ عباس المفرجي على أهم ما تميزت به شخصية " تشيزاري بافيزي " من خلال يومياته ونصوصه الشعرية وارتفع بقدرته العالية على معايشة العمل المترجم وكأنه منتجه . المفرجي متميز بكل الاعمال التي ترجمها وكان مبدعاً مخلقاً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram