ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأول
تعدّ موضوعة الثقافتين : العلمية والأدبية واحدة من الموضوعات الجوهرية التي ألقت بظلالها على مجمل التطور الإنسانيّ وبخاصة بعد عصر التنوير والأنسنة الأوروبية ، وتفاقمت مفاعيل هذه الموضوعة بعد عصر الثورة الصناعية ( بأطوارها المختلفة ) وتعاظم دور العلم وتمظهراته التقنية في الحياة البشرية وتغلغله في قلب السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة .
أقدّم في القسم التالي وعلى حلقات متسلسلة ترجمة للجزء الأوّل من المحاضرة التأريخية الشهيرة ( الثقافتان والثورة العلمية ) التي ألقاها العالم الفيزيائي والكاتب والروائي ورجل الدولة الأشهر البريطاني اللورد ( تشارلس بيرسي سنو ) في جامعة كامبردج عام 1959 في سياق محاضرة ريد Rede Lecture السنوية التي دأبت الجامعة على عقدها سنوياً منذ أكثر من مئة وعشرين سنة كجزء من التقاليد الجامعية العريقة التي تميّز الجامعات العالمية الرصينة .
المترجمة
إنقضت ثلاث سنوات تقريباً منذ أن نشرتُ مادة تحتوي وصفاً لمعضلة شغلت بالي بعض الوقت . كانت تلك المعضلة شيئاً لم أستطع تجنّبه بسبب ظروف حياتي ؛ إذ حصل أن البرهات الوحيدة الخاصة بتلك المعضلة والتي تُوجّب عليّ التفكّر فيها والتأمل بروية وتمعّن قد جاءت من خلال مجموعة من ظروف حياتي - أي بكلمات أخرى من خلال مجموعة من المصادفات وحسب ، ولستُ أعتقد بوجود مَنْ يمكن أن يخوض ظروف حياتي ذاتها من غير أن يرى الأشياء ذاتها التي رأيت ، ومن غير أن تكون له - كما أحسب - الآراء ذاتها التي كانت لي بشأنها ، وقد ترتّب الأمر بمحض الصدفة ليكون تجربة غير مسبوقة لي : كنتُ بحسب تأهيلي المهني عالماً ، وبحسب أهوائي الطبيعية كاتباً ، وهذا هو لبّ الموضوع بأكمله ، ودعنا نقل إنه كان شيئاً رسمت مقاديره الحظوظ وحسب - تلك الحظوظ التي نشطت مفاعيلها بسبب تحدّري من عائلة فقيرة .
غير أن تأريخي الشخصي ليس هو الموضوعة ذات الأهمية الآن ، وكلّ مايمكنني قوله بشأن تأريخي هذا هو إنني قدمْتُ لجامعة كامبردج وأجريتُ بعض البحث في وقت ساده نشاط علميّ أساسي عظيم الأهمية ، وأستطيع القول إنني كنت محظوظاً لأبعد الحدود بعدما شهدتُ بنفسي حقبة من أخصب الحقب الإبداعية وأكثرها إدهاشاً في تأريخ الفيزياء ، وحصل أن كان لبعض مصادفات الحرب ( العالمية الثانية ) - تعرّفتُ على سبيل المثال على دبليو. إل. براغ* W. L. Bragg في حانة محطّة كيتيرينغ في أحد الصباحات الصقيعية عام 1939 ، وكان له تأثير مفصلي حاسم في حياتي العملية اللاحقة - ، أقول إنّ تلك المصادفة ونظائرها منحتني القدرة ، بل وحتى جعلتني منقاداً من الناحية الأخلاقية على الإلتزام بتلك الرؤية منذ ذلك الحين ، وهكذا توجّب عليّ ولثلاثين سنة لاحقة أن أبقى وثيق الصلة بالعلماء ، ولم يكن هذا الإلتزام محض تمظهر من تمظهرات الفضول العلميّ فحسب بقدر ماكان شيئاً يختصّ بطبيعة كينونتي العلمية ذاتها ، وحصل خلال تلك الثلاثين سنة أنني كنت أشكّل في ذهني هيكل تلك الكتب التي كنت أتشوّق لكتابتها - تلك الكتب التي جعلتني أنضمّ لطائفة الكُتّاب عندما حلّ الوقت المناسب لذلك .
كان ثمة أيامٌ قضيت فيها ساعات عمل طويلة مع علماء ، ثم كنت ألهو بعدها ليلاً برفقة بعض زملائي الأدباء ، وأنا هنا أعني بالضبط كل كلمة أقولها . كان لديّ ، بالطبع ، أصدقاءٌ حميمون من العلماء والأدباء معاً ، وكانت معيشتي بين تينك المجموعتين ، وقبل هذا إنتقالي الدائم بين مجموعة وأخرى ، هما العاملان اللذان دفعاني للتفكير مطوّلاً بالمعضلة التي أسميتها لاحقاً معضلة الثقافتين وقبل وقت طويل من نضوجها في عقلي وعلى النحو الذي مكّنني من تدوينها على الورق : كان ثمة شعور طاغٍ يملأني طوال الوقت وأنا دائم التنقّل بين مجموعتين من البشر متكافئتين في الذكاء ، ومتماثلتين في الأصل ، ولاتبديان كثير إختلاف في جذور التنشئة الإجتماعية ، وتكسبان المداخيل ذاتها على وجه التقريب ؛ غير إنهما توقّفتا كلياً - إلا فيما ندر - عن إدامة روابط الحوار والتفاهم ، ولايجمع بينهما على الأصعدة الفكرية والأخلاقية والسايكولوجية سوى شيء باهت لايُعتدّ به ، وبلغت القطيعة بينهما مبلغاً غدا فيه عبور محيط من المحيطات الشاسعة أمراً أيسر بكثير من ذهاب المرء من ( برلنغتون هاوس ) أو ( ساوث كينسنغتون ) إلى ( تشيلسي ) ** ؛ بل الحقّ أنّ المرء يقطع في ذهابه بين تينك المنطقتين مسافة أبعد بكثير من خوض عباب المحيطات لأنّ واقع الأمر هو أن المرء يجد بعد بضعة آلاف الأميال في المحيط الأطلسيّ أنّ قرية ( غرينيتش ) تتحدّث باللغة ذاتها التي تتحدّث بها ( تشيلسي ) ، وأن كلّاً من القريتين تتشاركان الكثير من صلة التفاهم مع *** MIT بحيث بدا الأمر كما لو أنّ العلماء طائفة لاتجيد الحديث بغير اللغة التبتية . إن السبب الكامن وراء هذه المفارقة لايشكّل معضلة لنا فحسب وإن طالتها المبالغة بعض الشيء كنتيجة مباشرة لبعض خصائصنا التربوية والإجتماعية ( الإنكليزية ) ، ومن جهة أخرى تمّ التقليل من شأنها لدينا بسبب خاصية إجتماعية لها بعض الخصوصية الإنكليزية . يمكن القول ، وعلى نحو عام ، إنّ هذه المعضلة هي إشكالية تواجه الغرب بأكمله .
وأنا أسرد هذه الملاحظات أبتغي الإشارة لأمر بالغ الجدية تماماً ، ولست في هذا السياق أبالي كثيراً بالحكاية الظريفة التي تروي الكيفية التي حضر بها واحد من أعاظم رؤساء إحدى كليات أكسفورد وأكثرهم بهجة وانشراحاً لتناول طعام العشاء في كامبردج . حصل هذا الأمر ربما أواخر عام 1890 ، وقد سمعت الحكاية التي تُعزى إلى أي. إل. سمث ، وأظنّ أنّ وقائعها حصلت في كلية القديس يوحنا St. John أو الثالوث الأقدس Trinity . على كلّ حال جلس سمث على يمين الرئيس - أو نائب الرئيس - الذي كان رجلاً يميل لإشراك جميع مَن حوله في المناقشة حتى لو لم يحصل على إمارة تشجيع ترتسم على وجوه هؤلاء ، وحصل أن تبادل الرئيس بعض الحديث المبهج المعهود في النقاشات الأكسفوردية مع الرجل الجالس قبالته فلم يحصل منه إلا على همهمة غير مشجّعة ، ثم فعل الأمر ذاته مع الرجل الجالس إلى يمينه فحصل على الهمهمة ذاتها ، ثم حصل أن تبادل الرجلان السؤال " هل فهمت شيئاً ممّا يتحدّث هذا الرجل بشأنه ؟ ليس لديّ أدنى فكرة عمّا يقوله !! " ، وقد حصل كلّ هذا والرجل مندهش أعظم الإندهاش ، بل حتى أنّ السيد سمث بلغ به الإستياء مبلغاً كاد يخرجه عن كياسته ؛ غير أن الرئيس ( الكمبردجي ، المترجمة ) المُضيف الذي كان يتصرّف بموجب اعتبارات الضيافة الإجتماعية المطلوبة أعاد الضيف الأكسفوردي إلى هدوئه السابق عندما قال له : " أوه ، هؤلاء علماء رياضيات ! ونحن لانبادلهم الحديث أبداً ! " .
كلّا ، لستُ أسعى للحديث عن هذه الأمور وأمثالها ؛ بل أعتزم الحديث عن أمرٍ أكثر جدّية بكثير : أرى أنّ الحياة الفكرية في المجتمع الغربي بأكمله تمعِن في الإنقسام المتعاظم بين مجموعتين متعاكستين في القدرة على استقطاب الناس ، وحين أشير إلى " الحياة الفكرية " فإنّما أعني في الوقت ذاته شمول جزءٍ كبير من حياتنا العملية أيضاً ؛ إذ أحسبُ أنني آخر مَن يعتقد بإمكانية التمييز بين تينك الحياتين ( الفكرية والعملية ، المترجمة ) عندما نبحث في المستويات الأكثر عمقاً ، وسيكون لي حديث مطوّل عن الحياة العملية لاحقاً في موضوع آخر من هذه المحاضرة . ثمة ، إذن ، مجموعتان تمثلان قطبين متعاكسين : نجد في القطب الأول المثقفين الأدبيين الّذين عمدوا بمحض غفلة من الزمن لخلع صفة " المثقفين " على أنفسهم وبطريقة يبدو معها وكأن ليس ثمة مثقفون آخرون سواهم ، وقد إستغلّوا تغافل الآخرين وعدم اكتراثهم بالموضوع . أتذكّر في هذا السياق أنّ جي. إج. هاردي G. H. Hardy ( وهو أبرز علماء الرياضيات الأفذاذ في حياته التي امتدّت بين سنتي 1877 و 1947 ) قال لي في وقتٍ ما من الثلاثينيات ( في القرن الماضي بالطبع ، المترجمة ) وعلائم الحيرة مرتسمة على مُحيّاه : " هل ترى كيف تُستخدَم مفردة ( المثقّف ) هذه الأيام ؟ يبدو ثمة تعريف جديد للمثقف لم يعُد يصحّ إطلاقه على رذرفورد أو إيدينغتون أو ديراك أو أدريان أو عليّ . يبدو الأمر مفرطاً في الغرابة ، ألستَ تعلم ذلك ؟ "
إذن ، المثقفون الأدبيون هم ممثّلو القطب الأول ، وفي القطب الآخر المعاكس ثمة المثقفون العلميّون ، وأكثر من يمثلهم ويعبّر عن خواصهم هم الفيزيائيون ، ويفصل بين هذين القطبين محيط شاسع من الجهل المتبادل الذي قد يستحيل عدوانية وكراهية في بعض الأحيان ( وبخاصة بين الشباب من القطبين ) ، ويمتلك كلّ قطبٍ تصوراً ذهنياً يكتنفه التشوّه والغرابة بشأن القطب المقابل ، ومواقفهما مختلفة تمام الإختلاف إلى حدّ بات معه أمر إيجاد أساس مشترك وواسع بينهما متعذراً حتى على صعيد العواطف المجرّدة : يستطيب غير العلميين عدّ العلميين كائنات متهورة ومتغطرسة ، ويطربون ( أي غير العلميين ، المترجمة ) لسماع السيد تي. إس. إليوت T. S. Eliot ( الذي يمكننا عدّه الشخصية النموذجية الأكثر تمثيلاً لجوهر غير العلميين هؤلاء ) وهو يؤكّد في معرض محاولاته إحياء المسرحية الشعرية بأننا لانتطلّع إلا إلى القليل وحسب ؛ غير أنه سيشعر بالرضا العميق إذا مااستطاع هو والعاملون بمعيته ترتيب الأرضية التي تكفل تخليق ( كيد Kyd ) أو ( غرين Greene ) جديديْن . هذه هي النبرة المتواضعة المقيّدة والمحدودة التي يتكلّم بها المثقفون الأدبيون وهم ماكثون في مخادعهم - إنها الصوت الواهن لثقافتهم ! وفي مقابل ذلك ينصتون لصوت أعلى كثيراً : صوت شخصية نموذجية أخرى معاكسة تتجسّد في ( رذرفورد ) عندما يعلن بنبرة صاخبة : " هذا هو العصر البطولي للعلم ! هذا هو العصر الإليزابيثي ! " . لاشكّ أن الكثير منّا سمعوا بمثل هذه التصريحات والتي قد يكون تصريح رذرفورد بالمقارنة معها تصريحاً موغلاً في التواضع ، ولم تكن تلك التصريحات لتتركنا من غير معرفة ذاك الذي إختاره رذرفورد ليلعب دور شكسبير العتيد ( في ميدان العلم ، المترجمة ) . إنّ ماكان معضلة شاقة إستعصت على فهم المثقفين الأدبيين - على المستويين التخييلي والمفاهيمي - هو أنّ رذرفورد لم يجانب الصواب الكامل فيما كان يصرّح به .
--------------------------------------
* سير وليم لورنس براغ ( 1890 - 1971 ) : فيزيائي بريطاني عُرف بعمله في ميدان الحالة البلورية وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1915 . ( المترجمة )
** يشير المؤلّف من خلال ( برلنغتون هاوس ) و ( ساوث كينسنغتون ) إلى منطقتين بلندن العاصمة تتمركز فيها الكليات العلمية ويكثر فيها العلماء ، أما ( تشيلسي ) فهي إشارة إلى منطقة في لندن باتت مكاناً يتجمّع فيه الأدباء والكتّاب . ( المترجمة )
*** مختصر معهد ماساشوسيتس التقني الشهير في مدينة بوستن الأمريكية . ( المترجمة )