TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: "توسكا" ماريا كالاس

البرج العاجي: "توسكا" ماريا كالاس

نشر في: 30 سبتمبر, 2018: 07:03 م

 فوزي كريم

جئتُ المنفى الباريسي أواخر عام 1978، بعد عام واحد من وفاة مغنية الأوبرا "ماريا كالاس" فيها. توفيتْ في عزلة، هي ثمرة دراما حياة لا تبعد كثيراً عن الدراما اليونانية (هي اليونانية الأصل). فقد حصدت مجداً لم ينعم به مغني أوبرا قبلها أو بعدها طوال القرن العشرين. ولكنها في الوقت ذاته حصدت مهانةَ حياة، كانت وليدة خياراتها التي لا تخلو من سذاجة وحماقة. النجاح الفني، بما فيه من شهرة، أفسد خياراتها في الحياة.
ولدتْ في نيويورك عام 1923 من عائلة يونانية مهاجرة. بعد انفصال الأبوين، عادت مع أمها إلى اليونان عام 1937، وهي ممتلئة بثقة من يملك حنجرة وقدرة على الأداء استثنائيين. وهناك باشرت دراستها الموسيقية في معهد أثينا. في سن 14 أدت أول إسهام لها في أوبرا من فصل واحد، ثم في عام 1942 قامت بدور"توسكا" Tosca، أوبرا الموسيقي الإيطالي بوتشيني Puccini. بعد الحرب الثانية عادت إلى نيويورك، لتغني عام 1945 في دار "ميتروبوليتان"، وهي، مع "لاسكالا" ميلان و "كوفن غاردن" لندن، من أشهر دور الأوبرا في العالم. في عام 1949 حصلت على الجنسية الإيطالية على أثر زواجها من "جيوفاني مينياني" أحد رجال الأعمال، الذي أحاطها بالرعاية والحنو.
في سنوات صعودها كانت تضحي بكل شيء في حياتها من أجل الموسيقى وأدوارها الأوبرالية التاريخية، ولكنها ما أن ارتبطت بعلاقة حب مع البِليونير اليوناني الشهير "أوناسيس" حتى صارت تضحي بفنها من أجل مسرات حياتها الخاصة. طبعاً، هجرت زوجها الحنون، كما هجر "أوناسيس" زوجته، حتى صارت علاقتهما علكة في فم الصحافة. ومما زاد الأمر فضائحية أن "أوناسيس" سرعان ما هجرها لصالح علاقة جديدة بـ "جاكلين كندي"، بعد مقتل الرئيس الأمريكي.
انهيار كهذا خلّف صدعاً في مسارها الفني المتألق، بدأ عام 1958 حين أكملت الفصل الأول من عرضها، في أوبرا "نورما" للإيطالي "بِلليني"، ولم تعد للمسرح لمواصلة دورها. بعد ذلك بدأ نشاطها يخف بالتدريج حتى توقفت تماماً في مطلع الستينيات. إلا أن المخرج "زيفِرَللي" استطاع إقناعها للعودة، في دور "توسكا"، على مسرح "دار الأوبرا الملكية"، لندن. كان ذلك مصدر مسرة بالغة الحماس لجمهورها الواسع، حتى أن أحدهم اعترف بأنه انتظر في طابور شباك التذاكر خمسة أيام، بلياليها الباردة، طمعاً بالحصول على تذكرة. تم العرض في 9/2/1964، وكان عظيم النجاح. في 1965 حاولت ثانية رغم تحذير طبيبها الخاص، وكانت المحاولة آخر مساهمة لها، اعتزلت بعدها وهي في مطلع الأربعينيات من عمرها.
المؤسف أن أحداً لم يسجل بالصورة والصوت إلا الفصل الثاني من عرض "توسكا" 1946. وهو لا يتوفر في موقع You Tube إلا مقتطفات موجزة. الآن صدر DVD كاملاً عن دار النشر الموسيقية Cmajer، ويمتد لـ 45 دقيقة، مع فيلم وثائقي يمتد لـ 52 دقيقة، يتحدث فيه عددٌ من المعنيين بالأوبرا، وبفن ماريا كالاس خاصة.
هذه التحفة الموسيقية لا تقتصر أهميتها على دور ماريا كلاس المتألق فيها، بل على الفصل الثاني ذاته من أوبرا "ﭘوتشيني" (1858 ـــ 1924). فـهذا الموسيقي الأكثر شيوعاً في العروض العالمية ينتسب إلى تيار الواقعية، التي تتساوق مع "المذهب الطبيعي" في أدب معاصره أميل زولا. الدراما لديه قلبية، فياضة بالعواطف. ويمثل هذا الفصل الثاني من محنة "توسكا" الذروة في الصراع بين المرأة المحبة وبين "سكاربيا"، رئيس الشرطة، الذي يقبض على حبيبها الرسام "كاﭭارادوسي"، بذريعة علاقته السياسية بأحد الثوار، طامعاً بأن ينال منها وطراً، مقابل الوعد الكاذب بأطلاق سراحه. إن "توسكا" قوية في تمنعها وضعيفة في آن، و"سكاربيا" يُرخي الخيط ويشده بزخم شيطاني، والسجين " كاﭭارادوسي" يصرخ تحت التعذيب ويصمد ويطالبها أن تصمد معه. هذا الشدّ التصاعدي يمنحه صوت "ماريا كالاس" وأداؤها المسرحي روحاً عليّاً، من الصعب أن تنعم به في مشهد أوبرالي آخر. والذي يعزز من كل هذا مشاركة المغني "الباريتون" Tito Gobbi بدور رئيس الشرطة، وهو لا يقل عنها رفعةً وشهرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram