شاكر لعيبي
نحن نعلم أن لغة العرب لا تحتفظ إلا بصيغتي المذكّر والمؤنث، غالباً. من الناحية اللغوية ثمة اتفاق مبدئيّ على ذلك، لكن من الزاوية المنطقية، لعل هناك صيغاً محايدة، لا هي بالمذكّر ولا هي بالمؤنّث، وإن اعتبرتْ في إطار المذكّر لغوياً. مثل كلمة (المرء) التي هي "صيغة ذكورية" تصف (الإنسان) مهما كان جنسه، لكنها موصولة بكلمة (المرأة) كما نرى. وهو أمر يبدو غريباً للوهلة الأولى ولكنه مفيدٌ، ليس فقط لغوياً وإنما دلالياً وتاريخياً.
فمن أمثال العرب التي ينقلها الميدانيّ: "المرأة من المرء وكل أدماء من آدم" ثم يذكر: "يقال هذا أول مثل جرى للعرب". يقصد أول مثل قالته العرب، وفي ذلك دلالة مضافة لا تخفى.
فما المرء وما الأدماء؟ لو حاولنا تلخيص الأمر، نقرأ في لسان العرب أن المَرْء هو الإِنسان [وهذه أول جُمل اللسان تحت هذه المادة]. تقول هذا مَرْءٌ، وقد ورد في حديث الحسن ( أَحْسِنُوا ملأَكُمْ أَيها الـمَرْؤُونَ)، هو جَمْعُ المَرْءِ، وهو الرجل. ومنه قول رُؤْبةَ لطائفةٍ رآهم (أين يريد الـمَرْؤُونَ؟) وقد أَنَّثوا فقالوا مَرْأَةٌ، وخفَّفوا التخفيف القياسي فقالوا "مَرَة"، بترك الهمز وفتح الراءِ، وهذا مطَّرد. فإِذا عرَّفوها قالوا الـمَرأة. وذكروا أن امْرَأَة تأْنيث امْرِئٍ. و(المَرَة) كلمة تعتبر من عاميات العربية وهذا ليس بصحيح وفق أكثر من مادة من مواد اللسان.
وقد يتناهى بعض التناقض في الزعم أن المرء هو الإنسان ثم القول إن المرأة تأنيث امريء، لأن عموم الإنسان كلمة يراد بها الجنسان، فهي مفردة محايدة، مثل كلمة المرء نفسها.
ونحن نتفق بذلك. يقال للمرأَة كذلك إِنها لامْرُؤُ صِدْقٍ كالرَّجل، وهذا نادر. وقالت امرأَة من العرب (أَنا امْرُؤٌ لا أُخْبِرُ السِّرَّ). وقد اعتبروا هذا كله نادراً شاذاً، ونراه بقليل من التردّد صحيحاً إذا اعتبرنا مفردة المرأة خارجة بالأحرى من (مرء) وليس كلمة (رجل). أما إذا كانت مفردة المرء، المحايدة جنسياً، تعني الإنسان فإن هناك اعترافاً بأن المرأة هي الأصل.
ولعل المثل "المرأة من المرء" مما يعزّز رأينا. فمن هي الأدماء؟ الإِدامُ معروف ما يُؤْتَدَمُ به مع الخبز [ويُقصد بذلك غالباً اللحم]. والأَدِيمُ هو الجِلْد ما كان، وأَدَمَةُ الأَرض، وربما سمي وجْهُ الأَرض أَديماً؛ والأُدْمَةُ هي السُّمرةُ. والآدَمُ من الناس هو الأَسْمَرُ. الأُدْمةُ في الإِبل لَوْنٌ مُشْرَب سَواداً أَو بياضاً، وقيل هو البياضُ الواضِحُ، الأُدْمةُ البياضُ، والأُنثى أَدْماءُ وجمعها أُدْمٌ. الأدماء هي السمراء.
وتعيدنا مفردات الخبز واللحم والجلد والأرض، ومن ثمّ اللون الأسمر (وهو الحنطيّ بالأحرى بلغتنا الشائعة اليوم)، كلها إلى سمرة التراب. إلى التراب، لذا فإن أبا البشر الافتراضيّ آدم، متصل بالأدمة، اللبّ الأرضيّ الترابيّ الذي اشتقّ منه كل لبّ أخر (الخبز واللحم)، مما يعكس فكرة أن جسد الإنسان إنما هو من لبِّ ولحمِ وجلدِ الأرض نفسها، ومن ذلك المرأة الأدماء.
في اعتقادنا، يؤكد المثل العربيّ "المرأة من المرء وكل أدماء من آدم"، عبر معرفة مُفكَّر بها أو عبر حدس جبّار، أن المرأة هي الأصل في الجنس البشريّ.