TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > منطقة محررة: البصرة: في رثاء النخل والشعر

منطقة محررة: البصرة: في رثاء النخل والشعر

نشر في: 2 أكتوبر, 2018: 06:36 م

 نجم والي

بدر شارك السياب، محمود البريكان وسعدي يوسف، ثلاثة شعراء كبار ارتبطت اسماؤهم بالبصرة. الأول المولود 1926، مات وحيداً 1964 في مستشفى في الكويت ودُفن في يوم شتائي بارد وممطر في مقبرة الحسن البصري في الزبير، الثاني المولود 1931، توفى في 2002 على يد لصوص اغتالوه وهو أعزل في بيته ودُفن ليس بعيداً عن قبر السياب، في نفس المقبرة التي دُفن فيها أيضاً مُفسر الأحلام محمد بن سيرين. الثالث المولود 1934، يعيش منذ قرابة أربعة عقود خارج البلاد، قبل أن يستقر في العقدين الأخيرين في لندن. الثلاثة الذين لا يمكن تخيل الشعر الحديث في الوطن العربي بدون انجازاتهم، وحده السياب، يُعتبر المؤسس لقصيدة حركة الشعر الحر في الوطن العربي، من الصعب تخيل تطورهم الشعري بدون المناطق التي وُلدوا فيها. السياب وسعدي يوسف في أبي الخصيب، والبريكان في الزبير.
ولأن الشعر ينمو ويتطور حيث تكون هناك ولو القليل من الرفاهية الأقتصادية والإستقرار الاجتماعي، ليس من الغريب إذن أن تنجب المنطقتان تلك من البصرة، خاصة أبو الخصيب العديد من العلماء والمثقفين والأدباء والشعراء. أبو الخصيب مثلاً، البلدة القديمة، التي سُميت على "أبو الخصيب مرزوق"، قائد صاحب الزنج، في حربه ضد الدولة العباسية سنة 126 هجرية، والتي سكنتها العديد من العوائل التي هاجرت من نجد والحجاز بسبب موجة الجفاف التي ضربت شبه الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هي بستان عامر بزراعة النخيل بأرقى أنواعه: الحلاوي الساير والبرحي الذي يُعتبر من أهم أنواع التمور في العراق، ناهيك عن الترع والأنهار الصغيرة التي شقت طريقها أو حفرها الفلاحون فيه. وهل هناك جواً أفضل للشعر من جو هاديء محاط بالكثير من النخيل؟ أما الزبير الواقعة إلى الجنوب الغربي من البصرة والتي جعلها قربها من البادية تتحول إلى موقع لاستقرار البدو القادمين من صحراء نجد وبادية العراق ومنطقة للتبادل التجاري، فلم تشتهر بكونها مدينة حدودية ومركز استراحة للمسافرين بين الجزيرة العربية ومنطقة الخليج والعراق وحسب، بل هي أرض خير شاعت فيها زراعة أنواع كثيرة من الخضراوات، مثل الطماطم والخيار والرقي والبطيخ، أما النفط فقد أُكتشف في النصف الثاني من القرن العشرين.
اليوم، من يزور المدينتين لا يعثر إلا على الحطام. الزبير الذي وجود آبار النفط فيه جعله يصبح أحد المناطق المستهدفة بالقصف خلال حروب الخليج الثلاث، لم يعد مكاناً صالحاً للعيش، هجره أغلب سكانه الأصليين، خاصة بين 2006 و2008، سنوات الحرب الأهلية بعد تفجير قبة سامراء وما أعقبه من أعمال قتل وتهجير وخطف على أساس طائفي وانتشار جماعات مسلحة في مدينة البصرة وما حولها. أما أبو الخصيب، الذي لم يملك آبار نفط، لكن غابات نخيل، فقد وقع ضحية موقعه القريب من الحدود العراقية الإيرانية. من يتجول اليوم هناك لن يلتقي بالغابات تلك التي امتدت قروناً طويلة. وأينما مرّ، فإنه لن يعبر قناطر وترعات أو يغسل يديه بماء نهر. النخل الذي لم يأت عليه الدور وقلعته حفارات الحرس الجمهوري يوماً، حرقته قنابل المدفعية والطائرات. كل النخيل الذي أعاق تقدم الدبابات العراقية باتجاه مدينة عبادان الإيرانية، أمر صدام حسين في حربه التي استمرت ثماني سنوات (22 أيلول 1980 – 8 آب 1988) بقلعه. أكثر من 8 ملايين نخلة سقطت ضحية الحرب مع إيران. أبو الخصيب الذي كان غابة نخيل ضخمة في الماضي، هو اليوم أرض من الخرابً. لا حلاوي ساير ولا برحي، ولا أي نوع من التمور التي فاق عددها الستمائة والستون. لا شيء من الرفاهية الأقتصادية تلك، لا شيء من الاستقرار الإجتماعي ذاك.
أقف مع صديقي الخصيبي الشاعر طالب عبدالعزيز، أمام بيته الكبير في أبي الخصيب، ولا أرى أمامي غير فجوات كبيرة توزعت في المكان. فقط نخل مقطوع الرأس. جذوع نخل يابسة أو محروقة توزعت على مسافات بعيدة. أنهر وترع جافة. لا نخل إذن. لا تمر. لا ماء. أنهر وترع جافة. الماء الوحيد الذي يأتي هو ما شط العرب المالح. ماء البصرة، وماء أبو الخصيب خاصة لا يصلح حتى للاستحمام، فكيف سيصلح للسقي أو للشرب؟ حتى العرق، مشروب العارقيين الوطني الذي يصنعونه من ثمرة نخيلهم، وهذا ما أعطاه نكهة خاصة ميزته عن أنواع العرق التي تُنتج في بلدان أخرى، والذي كان يمكن أن نشربه تلك الليلة تعويضاً عن الماء، أو لنسيان ما رأيناه، لم يعد له وجود، وأن سعادة الحصول على ماركة غير مزيفة، أصلية، هو أمر نادر، يشبهه سعادة العثور على بستان نخل في البصرة ينتج الثمار، والأكثر: يشبه سعادة العثور اليوم على شاعر بصري أصيل يكتب شعراً في رثاء النخل والشعر!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

القضاء يحسم 853 طعناً على نتائج الانتخابات

الداخلية: العراق بنى منظومة متطورة لمكافحة المخدرات

التخطيط تتجه لتوسيع الرقابة النوعية لتشمل الصادرات والواردات عالية المخاطر

قبول 1832 طالباً في المنح المجانية لكليات المجموعة الطبية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram