TOP

جريدة المدى > عام > الثقافتان والثورة العلمية

الثقافتان والثورة العلمية

نشر في: 2 أكتوبر, 2018: 06:36 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الثالث

تعدّ موضوعة الثقافتين : العلمية والأدبية واحدة من الموضوعات الجوهرية التي ألقت بظلالها على مجمل التطور الإنسانيّ وبخاصة بعد عصر التنوير والأنسنة الأوروبية ، وتفاقمت مفاعيل هذه الموضوعة بعد عصر الثورة الصناعية ( بأطوارها المختلفة ) وتعاظم دور العلم وتمظهراته التقنية في الحياة البشرية وتغلغله في قلب السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة .
أقدّم في القسم التالي وعلى حلقات متسلسلة ترجمة للجزء الأوّل من المحاضرة التأريخية الشهيرة ( الثقافتان والثورة العلمية ) التي ألقاها العلم الفيزيائي والكاتب والروائي ورجل الدولة الأشهر البريطاني اللورد ( تشارلس بيرسي سنو ) في جامعة كامبردج عام 1959 في سياق محاضرة ريد Rede Lecture السنوية التي دأبت الجامعة على عقدها سنوياً منذ أكثر من مائة وعشرين سنة كجزء من التقاليد الجامعية العريقة التي تميّز الجامعات العالمية الرصينة .
المترجمة

أنا أحترم هذه الحجج ، والرقم ( 2 ) رقم بالغ الخطورة ؛ ولهذا السبب كان الديالكتيك ( الجدل ) عملية محفوفة بالخطورة ، وعلى هذا الاساس يتوجّب دوماً النظر بعين الشك والريبة إلى محاولات تقسيم أي شيء - كائناً ماكان - إلى قسمين . من جانبي فكّرتُ طويلاً في الإنغمار بإجراء تشذيبات على إستنتاجي هذا لكنني أحجمتُ في نهاية الأمر عن فعل ذلك : كنتُ أبحث طول الوقت عن شيء أكثر بقليل من محض إستعارة مجازية مفعمة بالحيوية ، وتكون في الوقت ذاته أقلّ بكثير من خارطة ثقافية ، وبقدر مايختصّ بهذين المسعيين يكون التقسيم إلى ثقافتين صائباً على وجه التقريب ؛ غير أنّ أيّ مزيد من التقسيم سيأتي بأضرار تفوق فوائده المدّعاة بكثير .
تتربّع الثقافة العلمية على أحد القطبين الثقافيين ، وهي ثقافة حقّة لا بالمعنى الفكريّ العام فحسب بل بالمعنى الأنثروبولوجي لمفردة ( الثقافة ) ؛ أي أن الأعضاء المنضوين تحت لواء هذه الثقافة ليسوا في حاجة ملزِمة لأن يفهم الواحد منهم الآخر فهماً كاملاً ، وبالطبع هم ليسوا في حاجة لفعل هذا الأمر دوماً : علماء الأحياء - مثلاً - غالباً مايحملون فكرة مضبّبة يسودها الغموض بشأن الفيزياء المعاصرة ؛ لكن ثمة توجّهات مشتركة ، ونماذج ومعايير سلوكية مشتركة ، ومقاربات ومفترضات مشتركة بين أعضاء الثقافة العلمية ، وتسود هذه الخصائص بين هؤلاء الأفراد على نحو مدهش يتقاطع مع الأنماط الذهنية الأخرى مثل : الدين ، السياسة ، الطبقة الإجتماعية .
أعتقد ، من الناحية الإحصائية ، أنّ عدد العلماء غير المؤمنين بأيّ دين هو أكثر بقليل بالمقارنة مع نسبتهم في الأوساط الأخرى من العالَم المثقّف على رغم الحقيقة التي تؤشّر أن كثيراً من العلماء هم دينيّون ، وأنّ نسبة هؤلاء الدينيين آخذة في التزايد وبخاصة بين أوساط الشباب من العلماء . من ناحية أخرى ، وفي السياق الإحصائي كذلك ، تتفوّق نسبة العلماء ممّن يميلون باتجاه سياسات اليسار على نسبة سواهم برغم أنّ الكثير من العلماء يستطيب وصفه بأنه مع تيار المحافظين ، ويبدو هذا التوجّه متزايداً بين أوساط العلماء الشباب كما هو الحال مع الموضوعة الدينية ، وبالمقارنة مع بقية المثقفين - من غير العلماء - نرى أن أعداداً كثيرة من العلماء في بريطانيا - وربما في الولايات المتحدة أيضاً - قد تحدّرت من عوائل فقيرة(5) ؛ غير أنّ أياّ من هذه هذه الخصائص التي تسِم العلماء ليست بقادرة على إحداث أيّ تغيير جوهري في طيف كامل من الفكر والسلوك الّلذيْن يميّزان العلماء عن سواهم ؛ إذ نشهدهم في سلوكهم المهني ( مثلما في معظم جوانب حياتهم العاطفية كذلك ) متماثلين تقريباً مع سواهم من العلماء ، أما بالنسبة لغير العلماء فالإختلافات بينهم أكثر بكثير لأنهم يعكسون في سلوكهم تأثيرات إنتساباتهم السياسية والدينية والطبقية ، وإذا كان جائزاً لي المجازفة بالتعبير عن هذه الحقيقة بكثير من الإختزال لقلتُ أن هؤلاء ( أي العلماء ، المترجمة ) يحملون المستقبل على نحو طبيعيّ للغاية بين تجاويف عظامهم .
قد يحبّ العلماء هذه الخصائص المشتركة بينهم ، وقد لايحبونها ؛ لكنهم يحوزونها في نهاية المطاف ، ويصدق هذا الأمر على العلماء المحافظين مثل ( جي. جي. ثومسن ) و ( لندمان ) مثلما يصدّق على العلماء الراديكاليين مثل ( أينشتاين ) و ( بلاكيت ) ، وعلى العلماء المسيحيين مثل ( أي. إج. تومسن ) ، وعلى العلماء الماديين مثل ( برنال ) ، وعلى العلماء البيروقراطيين مثل ( دي بروي ) و ( راسل ) ، وعلى العلماء الشغيلة - أي البروليتاريين - مثل ( فاراداي ) ، وعلى العلماء الذين قدّر لهم أن يولدوا أغنياء مثل ( توماس ميرتون ) و ( فكتور روتشيلد ) ، مثلما يصحّ الأمر مع عالم من طراز ( رذرفورد ) الذي كان ابناً لرجل يعمل في مهن عديدة غير معهودة . يُبدي هؤلاء العلماء على إختلاف مشاربهم إستجابات متماثلة من غير التفكير المسبّق في مزاياهم الخاصة وماترتّبه عليهم من إلتزامات مسبّقة ، وهذا هو عين ماتعنيه الثقافة في خاتمة المطاف .
في القطب الآخر المعاكس ثمة إنتشار أوسع للتوجّهات بالمقارنة مع طائفة العلماء ، ومن الواضح إنّ الطريق الواصل بين القطبين حافل بكلّ أشكال الإحساسات المتباينة التي يشهدها المرء حين ينطلق في أروقة المجتمع الثقافي مبتدئاً من الفيزيائيين باتجاه المثقفين الأدبيين ؛ غير إنني أشعر على المستوى الشخصي أن الجهل الكلي بالعلم يُلقي بظلاله على جميع المثقفين من غير طائفة العلماء ، ويُضفي هذا الجهل الكلي ( وهو أكثر انتشاراً بكثير ممّا نعلم ) نكهته على كامل الثقافة " التقليدية " ، وغالباً ماتكون هذه النكهة غير العلمية قابلة للتحول إلى توجّه عدائي تجاه العلم وعلى نحوٍ أوسع بكثير من المدى الذي نعترف به في العادة ، وتغدو إحساسات أفراد أحد القطبين هي بالضبط الإحساسات الضدية التي يشعر بها أفراد القطب المعاكس : على سبيل المثال ، إذا ماملك العلماء المستقبل في عظامهم - كما قلنا من قبلُ - فسيكون ردّ فعل أصحاب الثقافة التقليدية المعاكسة هو التمنّي بألّا يحلّ ذلك المستقبل العتيد(6) . إنها الثقافة التقليدية التي تُحكِمُ قبضتها على العالم الغربي ، ولم يوهنها إنبثاق الثقافة العلمية سوى بنزر يسير يكاد لايُذكر ؛ الأمر الذي لايمكن غضّ الطرف عنه .
إنّ هذا الإستقطاب المتعاكس هو خسارة فادحة لنا جميعاً : لنا كشعبٍ ولمجتمعنا كذلك ، وهو في الوقت ذاته خسارة على المستويات العملية والفكرية والإبداعية ، وأعيد القول في هذا السياق إنّ من الخطل التصوّر بأنّ هذه الإعتبارات الثلاثة يمكن فصلها على نحو واضح - كما يعتقد الكثيرون - ؛ ولكنني أرغب ( لبرهةٍ وحسب ) التركيز على الخسارة الفكرية بين هذه الخسارات الثلاث .
إنّ مستوى الجهل على جانبي القطبين الثقافيين هي المزحة التي صارت مع الوقت حقيقة مُرّة : ثمة في هذه البلاد ( أي بريطانيا ، المترجمة ) مايقاربُ الخمسين ألفاً من العلماء ، والثمانين ألفاً من المهندسين المحترفين والعلماء التطبيقيين* ، وقد توجّب عليّ ، أنا وعدد من زملائي ، منذ الحرب ( العالمية الثانية ) وحتى وقتنا هذا ( أي عام 1959 ، المترجمة ) مقابلة مايقاربُ الثلاثين إلى الأربعين ألفاً من مجموع هؤلاء - أي حوالي 25% من المجموع الكلي ، وتلك نسبة كبيرة بما يكفي لتوفير صورة نموذجية وافية عن خصائص هؤلاء على الرغم من أنّ معظم من قابلناهم كانوا دون الأربعين من أعمارهم ، وقد مكّنتنا هذه المقابلات من إكتشاف جزء ليس باليسير ممّا يقرأ ويفكّر فيه هؤلاء ، ولست أخفي إعترافي بأنني ( نعم حتى أنا الذي يعتزّ بهؤلاء ويكنّ لهم كلّ الإحترام والتقدير ) قد أصِبتُ بشيء من الدهشة والذهول ؛ إذ لم أتوقع - أنا وزملائي - أن تكون صلة هؤلاء بالثقافة التقليدية على تلك الدرجة المفرطة في الوهن والضعف ، وهي ليست بأكثر من محض " رفع قبّعة " ** شكليّ .
وعلى النحو الذي يتوقّعه الكثيرون منّا كان لدى بعض أفضل العلماء ، ولايزال لديهم ، الكثير من الطاقات والإهتمامات التي يستطيعون أن يدّخروها لأغراض شتى ، وحصل بالفعل أن قابلنا العديد ممّن قرأوا كلّ شيء أدبي مؤثر يتحدّث بشأنه الأدبيون ؛ غير أن هذا الأمر بالغ الندرة ، أما معظم البقية من العلماء الذين قابلناهم فكانوا يجيبون - بتواضع - حين يستحثّهم المرء على معرفة الكتب التي سبق لهم قراءتها : " حسناً ، حاولت قراءة شيء من أعمال ديكنز " وعلى نحوٍ يوحي بأن ديكنز كاتب يستعصي فهمه وموغلٌ في التعقيد ولايفهمه سوى قلة قليلة من الناس ، وأنّ من المشكوك فيه أن تأتي قراءته بفائدة ما كما هو الأمر مع ( رينيه ماريا ريلكه ) . الحقّ أننا إنتهينا ( يقصد أعضاء لجان المقابلات ، المترجمة ) إلى هذا الإكتشاف المدهش : غدا ( ديكنز ) الصورة النمطية النموذجية للجهل الأدبي ( لدى فئة العلماء ، المترجمة ) ، وكان هذا الإكتشاف أكثر النتائج غرابة وإدهاشاً في التجربة كلها .
غير أنّ هؤلاء ، وحين يقرأون ( ديكنز ) أو أيّ كاتب آخر هو موضع الإجلال والتوقير لدينا ، يكتفون فحسب بإبداء مظاهر الإحترام الشكلي للثقافة التقليدية . إنّ لهؤلاء العلماء ثقافتهم الخاصة بهم - تلك الثقافة التي تنطوي على الكثير من الشمول والدقّة والدينامية الدائمة ، ملما تحتوي على الكثير من الآراء والحجج ، وهي في العادة أكثر دقّة من آراء الأدبيين وحُجَجهم وتبلغ في العادة مستوى إدراكياً أعلى من نظيره لدى الأدبيين على وجه التقريب ، ويحصل هذا الأمر على الرغم من أنّ العلماء يستخدمون - وبكيفية تلقائية - مفرداتٍ يقصدون منها معاني لاتلقى صدىً لدى مدارك الأدبيين بسبب كون تلك المعاني دقيقة ومحدّدة على نحوٍ مفرط الصرامة : عندما يتحدّث العلماء عن ( الذاتيّ ) أو ( الموضوعي ) أو ( الفلسفة ) أو ( الإرتقائيّ ) فهم يعرفون مايقصدون بالضبط رغم أن مقاصدهم ليست هي مااعتاد المرء أن يتوقّعه ( لدى غير العلماء ، المترجمة) .

________________
* هذه الأرقام بالطبع تعود لسنة 1959 التي ألقى فيها (سنو) محاضرته في جامعة كامبردج . (المترجمة)
** كناية عن الإحترام والتقدير . (المترجمة)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram