لطفية الدليمي
من أين تأتي قوة الحب الجامحة وسطوته المقتدرة في حيوات الكائنات البشرية ( بل وحتى غير البشرية ) ؟ هناك في المحاورات الأفلاطونية إشارات مبكرة إلى تأثيرات الحب في حياتنا ؛ غير أنّ التسويغ المنطقي لقدرة الحبّ وسحره جاء مع الفلسفة الظاهراتية التي وضع أسسها الفيلسوف الألماني هوسرل عندما أشار إلى مفهوم فلسفي (وسايكولوجي في الوقت ذاته) هو (القصدية) الذي صار حجر الزاوية في كلّ الفلسفة اللاحقة ، وثمة مقايسة مهيمنة في هذه الحياة تقول (إنّ كمّ القصدية الذي نتوجّه به نحو أي فعل في حياتنا يتناسب عكسياً مع أهمية ذلك الفعل من الناحية البيولوجية في حياتنا) : نحن على سبيل المثال لانعمد إلى التنفس أو التوقف عن التنفس بطريقة قصدية ؛ فالسياق الطبيعي السائد هو أن نتنفس على نحو تلقائي يبدو أننا لانتحكّم فيه كثيراً، ويصدق الأمر ذاته وبدرجات متفاوتة على الفعاليات البيولوجية الأخرى من تناول الطعام والنوم وغيرها .
يحضرُني دوماً ذلك المشهد المؤثر في ختام فلم (عقل جميل) حيث القاعة الفخمة التي يتوج فيها الفائزون بجوائز نوبل، عندما يتحدّث عالم الرياضيات العبقري (جون ناش) على لسان ممثل يناظره في العبقرية هو (راسل كرو) في بيان مسيرته العلمية واستحالاته الحياتية العجيبة في واحد من المشاهد السينمائية (أجده من بين أهم المشاهد التي دخلت تاريخ السينما) حتى ينتهي إلى قول عبارته الختامية الثمينة : " في معادلات الحب الغامضة وحدها يمكن إيجاد كل العقلنات المنطقية " ، ثمّ يلتفت إلى زوجته بعينين دامعتين ليقول لها : " أنت عقلي وكلّ عقولي " .
وبقدر مايتعلق الأمر بالحبّ فهناك شواهد كثيرة على أنّ كلّ الكائنات البشرية غير المشوّهة تحبّ بطريقة تلقائية ويسيرة ، ويبدو الحبّ معها أقرب إلى آلية مرافقة للحياة البشرية مصمّمة بقصد الإرتقاء بنوعية الحياة وجعلها أفضل للعيش ، وعلى هذا القياس تبدو القصدية في الحب ضئيلة وغير مسوغة ؛ فنحن نحبّ بطريقة سلسة وأقرب إلى الفعل التلقائي ومن غير كثير تدبّر أو مساءلة أو قياسات منطقية ، وتبدو صورة الكائن البشري مثالية عندما يكون محباً وعاشقاً لكلّ شيء في الحياة ، ولاينبغي أن ننسى هنا أنّ بعض فلسفات العيش العالمية التي تسمى دينا كالأديان الأخرى - مثل البوذية - إنما تضع الحبّ والتعاطف مع كلّ الكائنات الحية - بشرية كانت أم غير بشرية - مثالاً سامياً تعمل على ترسيخه وجعله مرتكزاً لكلّ حياة بشرية سوية ، ولكي نبلغ مرتقيات السعادة علينا دوماً التفكّر في هذه الفلسفات والتعلّم منها بدل الإنكفاء على محض مواضعاتنا الدينية بقدسيتها الصارمة .
الحبّ إذن هو آلية ارتقاء بالحياة البشرية وجعلها حياة أرحب تستحقّ العيش بشغف عظيم ، فالحبّ هبة مجانية مكنونة في دواخلنا ويمكن تفعيلها تلقائياً شرط أن لانضع العصيّ أمام عجلاتها ، بنشر سموم الكراهية العمياء التي تترسّخ في العادة منذ الصغر بسبب التربية المتشددة ومواضعات الدرس الفقهي التقليدي الذي يجعل الحياة مباءة لاتستحقّ سوى الإزدراء والكراهية وعلينا إعمال السيف بجميع الكائنات البشرية التي تختلف عنا و يحسبها الدرس الفقهي كائنات ضدية لاتستحقّ الحياة معنا .
لننظر إلى وجه الدالاي لاما الذي لاتفارقه الابتسامة المضيئة ، ثم لننظر في وجوه بعض مشايخ الفقه المظلمة، حينها سنعرف حجم الخراب الذي نعيش في عتمته.