ستار كاووش
حين إتَّخَذْتُ كلمة (باليت) كعنوان لهذا العمود الذي أكتبه هنا منذ سنوات، رأيتُ انها تتلاءم مع ما أتناوله من مواضيع تتعلق بشكل عام بالفن التشكيلي وخاصة الرسم. وبطبيعة الحال، هي كلمة موجودة وشائعة نوعاً ما، وخاصة بين الرسامين والمهتمين بالفن التشكيلي. لكن ما هو أصل كلمة باليت؟ من أين جاءت، وماهو معناها؟
عند سماع هذه الكلمة يخطر في الذهن عالم الرسم الألوان وما يقوم به الفنانون الذين يقضون أغلب أوقاتهم مع هذه القطعة الخشبية، غريبة الشكل والحجم. قرون مضت، والرسامون يتهافتون للحصول على هذه القطعة الصغيرة، سواء في الأكاديميات والمعاهد التي تدرس الفن، أو في المراسم الخاصة بهم أو أثناء الرحلات التي يقومون بها في الهواء الطلق، حيث يخرجون عدتهم وأدواتهم للبدء في مغامرة رسم الطبيعة.
اليوم، وفي أغلب ثقافات ولغات العالم، حين تذكر كلمة باليت فـأنها تعني شيئين لا ثالث لهما، الأول، يكاد يكون كل شخص قد رآه وتحسسه وتعامل معه، وهو اللوح الخشبي الذي يوضع تحت البضائع، ويكون سميكاً متماسكاً في الغالب، ومتكوناً من مجموعة من الألواح المتراصفة مع بعضها بقوة لتحتمل ثقل الصناديق التي توضع فوقها، وهناك حجمان شائعان من هذه الباليت، لا تتعدى أبعادهما ١٢٠ سم ولا تقل عن ٨٠ سم، لتتلاءم مع طرق الشحن والخزن وحجم المنتوجات.
والنوع الثاني من (الباليت) هو الذي يستخدمه الرسامون لوضع ألوانهم ومزجها ورؤية الانسجامات والتناغمات بينها أثناء عملية الرسم، فلا يوجد رسام ينجز لوحاته بدون باليت، وهو كما المسند، شيء أساس وضرورة عملية وقت تنفيذ اللوحة والتعامل مع اللون، ولا يبتعد عنه الرسام إلا ما ندر، بسبب ضرورات تقنية أو ظروف خاصة، أو ربما لهدف ما في ذهن الفنان، كما في لوحات الرسام جاكسون بولوك الذي يصب الألوان السائلة على لوحاته المفروشة على الأرض، من خلال علب تملؤها الثقوب ومعبئة بالصبغات، أو الفنان بازاليتس الذي يرسم لوحاته بالمقلوب (ويعرضها كذلك) وهو يستعمل علب الألوان مباشرة أثناء التنفيذ، أو الفنان ماتيس الذي لجأ الى قصاصات الورق بدلاً من الألوان بسبب المرض الذي أعاقه عن الحركة.
لقد زرت الكثير من مراسم الفنانين المشاهير، والتي تحول الكثير منها الى متاحف مهمة، ورأيت كيف إن باليت الرسام يشبه لوحاته وشخصيته كثيراً، من ناحية اختيار الشكل والحجم وكذلك طريقة وضع الالوان واختيار تدرجاتها، فباليت ريمبرانت بمرسمه في أمستردام وكذلك باليت ديلاكروا بمرسمه في باريس تغلب عليهما الألوان الداكنة والبنية، ألوان بكميات صغيرة جداً صُفَّتْ قرب بعضها بعناية فائقة وكأنها نوتات موسيقية. عند النظر الى هذه الباليتات نعرف كم كانت صناعة وتحضير الألوان مكلفة وغالية. بالمقابل، رأيت كم كانت باليتات الانطباعيين قزحية ومشرقة، يتداخل فيها البنفسجي مع الأخضر المشع، ويحيطهما البرتقالي الذي اخذ مكانه المريح بين الاحمر والاصفر.
بمرور الزمن أخذ الباليت يتغير وتتغير طريقة استعماله عند الفنانين، فلا أحد يمسك الباليت بيده الآن وهو يرسم ثم يعود أدراجه بضع خطوات وهو ينقل بصره بين اللوحة والباليت. وبالنسبة لي شخصياً، افضل ان تكون الطاولة التي اضع عليها علب الألوان هي الباليت، لأن ذلك يوفر لي مساحة مريحة كما يوفر لي حرية الحركة.
نعود الـى أصل كلمة باليت، وهي كلمة اغريقية قديمة تعني لوح عظم الكتف، وقد إشتق الرسامون هذه التسمية لأن اللوح الذي يمزجون عليه الوانهم تقترب هيئته من شكل هذا العظم مفلطح الشكل، وظلت هذه التسمية باقية الى يومنا هذا. كما بقي شكل الباليت ثابتاً تقريباً. والفرق الجوهري بينهما هو أن باليت الألوان يستقر في المرسم بينما عظم (باليت) يستقر أسفل الكتف!
