لطفية الدليمي
(كل معنى كامن في الغاية ومشروط بوجودها ) : هذه هي العبارة الشهيرة التي صارت عنواناً بارزاً لعصر التنوير الأوروبي مثلما أمست ميداناً لمباحث فلسفية كثيرة شاءت أن تجعل موضوعة ( الغائية ) مقترنة بكمال الوجود الإنساني وجماله حتى على صعيد العلم الطبيعي ، وفي هذا الميدان شهدنا كيف تحولت الفلسفة الديكارتية إلى نمط إختزالي ميكانيكي يجعل الموجودات كلها ( بدءاً من الكائن البشري The Men of Letters painting وحتى الكون ) محكومة بقوانين ميكانيكية محددة تنقاد لنظرية نيوتن التي عُدّت المثال الأوضح لإقتران الغاية بالمعنى .
إنّ موضوعة غائية الحياة ( والوجود الإنساني بعامة ) وكونها مرتبطة بشرط توفرها على معنى للوجود هي موضوعة فلسفية - سايكولوجية - دينية مركّبة في المقام الأول وليس لها السبق أو لكونها ضرورة علمية وإن كان العلم وقوانينه ووسائله توظَّف بطريقة قسرية سيئة ( أغلب الأحيان ) في حمى الجدالات الفلسفية منذ عصر الفلسفة القروسطية ومروراً بعصر التنوير الأوروبي حتى يومنا هذا.
كل الأشياء موجودة من أجل غاية محددة جديرة بخلع معنى يتسم بالمهابة والجلال ويشي بالقدرة الخلاقة للصانع الأمهر، ومن الطبيعي أنّ اللاهوتيين ومُناصري الأنساق اللاهوتية كانوا أكثر الناس براغماتية ووقاحة عندما وظّفوا المبادئ الديكارتية من أجل تعزيز سطوتهم الدنيوية مسنودين بدعم الحكومات القروسطية لهم، وأبدى العلماء من جانبهم الميل ذاته إنما بعيداً عن النزوعات البراغماتية- النفعية بل بتأثير الصياغات الرياضياتية المحكمة التي جاءت بها الميكانيكا النيوتنية وصارت مسك ختام العلم الطبيعي وأيقونته العصية على الإندثار. ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى بدايات القرن العشرين وظهور ميكانيكا الكم التي قلبت الأسس الفلسفية للعلم الفيزيائي ؛ لكن حتى في تلك الأوقات كتب بعض أكثر العلماء تأثيراً في زمانهم وهو ( السير جيمس جينز ) يقول : " صار واضحاً لدينا أن خالق الكون هو رياضياتي من الطراز الأول ".
لندقق مثلاً في مبدأ ( التصميم الذكي ) الذي يعدّ الحجة الأكبر لوجود غائية محكومة بسلسلة سببية حتمية بين الوقائع المادية منذ لحظة الخلق الأول حتى وقتنا هذا، وقد تلوّنت وسائل ( التصميم الذكي ) وحُجج العلماء الأعلام المدافعين عنه مع مجموع مريديهم، وكانت الحجة الأحدث بين حججهم الكثيرة هي ( التنغيم الدقيق ) - تلك الإشارة التي تعني أنّ الوجود الفيزيائي للكون والموجودات الحية فيه تعتمد على ثوابت كونية بالغة الصغر، وأنّ تلك الثوابت لو طالها تغيير صغير للغاية لما كانت الحياة ممكنة على وجه الأرض؛ بل لما كان ثمة إمكانية لوجود الكون أصلاً.
قد لايُبدي بعض المدافعين المتحمسين عن وجود معنى للحياة ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضياتية والفيزيائية ؛ لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية : كيف يمكننا تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى ؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم ؟ هم يجادلون بهذه الطريقة لأنهم يريدون مكافأة لكلّ فعل خيّر يفعلونه ولايطيقون تصوّرعالم تنعدم فيه المكافأة المنتظرة من وجهة نظرهم .
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا حسب : قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ماتحبّ وتهيم به شغفاً، ولاتنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولاتدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال - هذا هو مايخلع معنى على الحياة ، وليس كل ماسواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة اللاهوت أو الراحة الموهومة الناجمة عن ارتكاننا للقناعات الزائفة.