حميدة العربي
كونه لا يقرأ ولا يكتب، ولم يحظَ بتعليم نظامي، لم يكن عائقاَ أمام حلمه بالشهرة، وعدم حصوله على تأهيل أكاديمي في صناعة السينما أو أُسسها، لم يمنعه من أن يصبح أحد أهم رواد السينما الهندية وأبرز مخرجيها ومنتجيها، بل توسع في طموحه وأسس أهم ستوديوهات للسينما وزرعها في قلب بومباي، كل ذلك بفضل ما كان يتمتع به من (ولع غريب لتحقيق المستحيل)* راوده منذ أن شاهد أول فيلم من خلال السينما الجوالة التي زارت قريته، فهرب من البيت في سن 16 ليحقق حلمه بالعمل في السينما.. لكن والده، الشرطي، أعاده وأجبره، لاحقاً، على الزواج، معتقداً إنه سيطفِئ فيه جذوة الجنون تلك. وهرب مرة أخرى وتحدى الظروف الصعبة وعانى كثيراً قبل أن يحقق حلمه ويصبح واحداً من أهم أعلام السينما وأول فنان يحمل لقب خان تقدمه السينما الهندية (حوالي 16 فناناً يحمل لقب خان، لحد الآن)
ولد محبوب رمضان خان في أيلول عام 1907، في قرية صغيرة اسمها سرار في ولاية كوجورات الهندية من عائلة فقيرة، وكان في صباه يركب القطار مجاناً بمساعدة قريبه، مراقب المحطة، ليلحق بالسينما الجوالة من قرية الى أخرى، فغرست تلك (البهرجة المتنقلة)* بداخله رغبة شديدة للعمل فيها حتى صار مقتنعاً أنه سيصبح بطلاً من أبطالها، وكان يجلس على مقاعد المحطة بانتظار من يتبرع له بتذكرة تنقله الى حيث يحقق حلمه، الى بومباي مدينة السينما! حتى تبرع له قريبه بتذكرة، ذهاب فقط، ليرسله الى مصيره (وبجيبه ثلاث روبيات فقط لكن رأسه مليء بالأحلام!)* وظل محبوب يتنقل من عمل الى آخر داخل الاستوديوهات، من مصلح أحذية الخيول السينمائية الى كومبارس في السينما الصامتة حتى جاءته فرصة ليمثل دور أحد اللصوص الأربعين في فيلم (علي بابا) وعدة أدوار ثانوية أُخرى، بعدها عمل مساعد مخرج في شركة أردشير إيراني، ثم انضم الى شركة صقر للانتاج (وكان يضحك من جرأته في الاعتقاد بأنهم سيسمحون له بالإخراج)* لكن بمثابرته واجتهاده نجح أخيراً في الحصول على أول فرصة في الإخراج، فقدم فيلم (حكم الله) عام 35 ونال الفيلم شعبية كبيرة، استطاع بعدها تكوين فريق عمل خاص به، أبرزهم المصور فريدون إيراني، الذي صور معظم أفلامه اللاحقة.. ومِثلْ أغلب الرواد تعلم محبوب حرفية السينما وأدواتها تدريجياً وبالممارسة العملية، لذا لم تكن أفلامه الأُولى بالمستوى الفني المطلوب. إلا أن موقعه كمخرج تعزز بعد أفلام (مانموهان، عام 36، باجيدار 37، وطن 38). وفي فيلم (يك هي راستا) عرض محبوب ميوله الإجتماعية والسياسية حول الحرب الأهلية وعدم الإستقرار الذي شهدته البلاد، فقُدم الى المحاكمة بتهمة السخرية من النظام. ومع بداية الحرب العالمية الثانية إنهارت شركة صقر وأُنشأت بدلها الشركة الوطنية فانتقل محبوب مع فريقه السينمائي اليها ليخرج ثلاثة من أهم أفلامه (اورات 40، باهين 41، روتي، 42) أورات المأخوذ عن رواية بيرل بك (ألأُم) حقق له نجاحاً بالغ الأهمية، والذي أظهر فيه التناقض بين أهل المدن ونظامهم القائم على أساس المال وبين القبائل التي تتعامل بالمقايضة. ثم قدم نسخة جديدة من فيلم (علي بابا) بطولة النجمة ساردار أختر، التي أصبحت زوجته عام 42، أما فيلم (روتي) فكان هجوماً عنيفاً على الرأسمالية التي رمز لها بالصحراء القاحلة. بعدها أسس محبوب شركته الخاصة، ووضع لها شعار المطرقة والمنجل، رغم إنه لم ينتم الى أي حزب.. وصار ينتج بشكل منتظم ومربح، فظهرت أفلامه (نجمة، همايون، تقدير) وكانت من النوع الخفيف. بعدها اتجه للأفلام الموسيقية الرومانسية فأخرج (أنمول غادي) وأوائل أفلام راج كابور. وقد تأثر في بداياته بأفلام هوليوود لكنه ركز في معظم أعماله على القضايا الاجتماعية والصراعات الطبقية وخصوصاً الفوارق بين الأغنياء والفقراء مثل فيلم (شانترام) ثم فيلمه الملون الأول (آن) الذي حقق نجاحاً وشعبية عالمية وعرض في الشرق والغرب ويحكي قصة رجل من عامة الناس يتحدى أميرة (اشتهرت إحدى أغاني الفيلم عالمياً وقدمت بعدة لغات منها العربية بعنوان مهلك مهلي) ثم الميلودراما الشعبية (آمار) أما تحفته الفنية فهو فيلم (أنداز، عام 49) الذي اعتبر ثورة في معالجته الدرامية، وطرحه للأحداث وأسلوبه المتقدم على عصره، رغم إنه يتناول موضوعاً تقليدياً وهو الغيرة الزوجية، وقدم فيه المثلث (الذي تغلب على كل مثلثات السينما الهندية، نرجس، راج كابور، ديليب كومار). إلا أن أعظم ما أبدع من أعمال هو ملحمته الذائعة الصيت (الهند الأم) والذي عرف عندنا ب (أم الهند) عام 57 (فكرته مستمدة من فيلمه القديم، أورات) والفيلم ملحمة ريفية عن الهند ومعاناة طويلة وعميقة لإمرأة فلاحة تحملت مسؤوليات كبيرة وخاضت نضالاً مريراً في سبيل أرضها، مثلت النموذج الهندي الأصيل للأمومة. عرض فيه، محبوب، دوائر من الصراعات، صراع الفقراء مع الأغنياء، صراع عائلي بين الأُم وابنها والأخ وأخيه غير الشقيق، وصراع الإنسان مع الطبيعة، وكان نجاح الفيلم هائلاً وانتشاره واسعاً، فاق كل التوقعات وحصد الكثير من الجوائز والتقديرات وهو أول فيلم هندي يُرشح للأوسكار كأفضل فيلم اجنبي ـ حتى جاء فيلم لاغان بعد 45 سنة ـ. ولأن محبوب عاش وتربى في بيئة فلاحية وكان على دراية بالحياة الريفية والمواسم وعادت الناس وأخلاقياتهم ومعاناتهم وأفراحهم، لذا جاءت تجربته هندية تماماً وبكل التفاصيل، من بيئة وشخصيات وأحداث درامية، أثارها محبوب ليشحن الفيلم بكل طاقات الحياة، ما يترك عند المشاهد انطباعاً رومانسياً عن الحياة الريفية في الهند إضافة الى التحليل النفسي والرمزية والاستعارة القومية. لقد تميز فيلم (أم الهند) بمواصفات عالية، ابتداءً من جوقات الفلاحين ـ الذين مثلوا خارطة الهند ـ مروراً بالفلكلور الهندي المتنوع الى اعتماد أبرز نجوم السينما وفي مقدمتهم النجمة نرجس التي طبعت، بأدائها القوي والمؤثر، بصمة لا تمحى في السينما الهندية. ويمكن اعتبار محبوب خان من أنصار المرأة فكان يصر على أن تكون المرأة محور مواضيعه ولها الدور الرئيس دائماً. في عام 54 انشأ محبوب وفي قلب بومباي ستويوهات للسينما تحمل اسمه الأول (ستوديوهات محبوب) وظل ينتج ويخرج ويكتب القصص والسيناريوهات حتى فيلمه الأخير (ابن الهند، 62 ) والذي لم يحقق الإيرادات المتوقعة. ويحسب لمحبوب، إنه اكتشف ومنذ انطلاقته، عدداً من الممثلين أصبحوا نجوماً لامعين في الخمسينيات والستينيات مثل سونيل دات، راج كومار، راجيندرا كومار، نيمّي، سوريندرا، نادرة، وغيرهم.. وقدم الى الصفوف الاولى راج كابور، نرجس وديليب كومار!
في عام 61 أُختير عضواً في لجنة التحكيم في مهرجان موسكو السينمائي الثاني.
رحل محبوب خان في 9 أيار عام 64 بنوبة قلبية بعد يوم من رحيل الزعيم الهندي جواهر لال نهرو. (يقال بعد سماعه الخبر) وبعد أن ظل نقيباً للسينمائيين الهنود حتى رحيله. لقّبه الكاتب والمخرج الشهير خواجا أحمد عباس ب (الريفي العظيم) وكُتبت عنه وعن تجربته الفذة الكثير من الكتب والمقالات وكرمته الحكومة الهندية بمنحه لقب (هدايت كار أعظم) وإطلاق اسمه على أحد الشوارع في مدينته، وإصدار طابع بريدي بمناسبة ذكرى ميلاده المئوية. ومن أهم وأجمل ما كتب بعد اقتراح تحويل ستوديوهاته الى ملاعب، عبارات الناقدة والكاتبة ميغا ماثور (مثلما لا يمكن ان تكون السينما الهندية بدون محبوب، لا يمكن أن يكون قلب بومباي، بدون ستوديوهات محبوب)
* العبارات بين الأقواس لابنه إقبال خان